كتاب سلسلة ومضات إعجازية من القرآن والسنة النبوية (اسم الجزء: 14)

وعزمي أن أفعل، فلمّا دخلت المسجد رأيته ولم تطب نفسي أن أعتزله فجئت فجلست معه، فجاء في تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة، وترك مالا وليس له وارث غيره، فأمرني أن أجلس مكانه. فما هو إلا أن خرج حتى وردت عليّ مسائل لم أسمعها منه، فكنت أجيب وأكتب جوابي. ثم قدم، فعرضت عليه المسائل وكانت نحوا من ستين مسألة، فوافقني بأربعين وخالفني في عشرين، فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت وهكذا كان".
وكان أبو حنيفة شديد الأدب مع شيوخه حتى أنه كان لا يتخلى باتّجاه بيت شيخه حمّاد كان إذا نام يحرص أن لا تتوجه قدماه باتجاه بيت شيخه حمّاد. وقيل إن أبا حنيفة لم يكثر من الشيوخ مخافة أن تكثر حقوقهم عليه فلا يستطيع أداءها، فتأملوا في أدبه الرائع!.
ولعه بالفقه الفرضي:
أولع أبو حنيفة بالفقه الفرضي بخلاف معظم علماء عصره الذين كانوا يقولون نحن مضطرون أن نعلّم حكم اللّه في أمر حصل أمّا إذا لم يقع لا نحمّل أنفسنا هذه المئونة. ومعظم شيوخ أبي حنيفة كانوا على هذا المنوال وإن وجد فيهم من استجاز لنفسه أن يتوسع قليلا فإلى حد محدود جدا. وأبو حنيفة كان على النقيض إذ كان يفرض الوقائع وإن لم تقع وكان يتأمل في حكمها ويعطي كلا منها فتوى. هذا الأمر أعطى فقهه غزارة وغنى ومدعاة لأن يتبع الناس الفقه الأوسع والأكثر استجابة لواقع الحال، فما لم يقع اليوم سيقع غدا لا سيما عند ما يكون هذا الإمام عالما بعلم الاجتماع وخبيرا بالمشكلات التي ستنجم، مثال ذلك: لقي أبو حنيفة قتادة رضي اللّه عنه وهو عالم من أجلّ علماء الحديث فسأله ما تقول في رجل غاب عن أهله أمدا طويلا ولم يعرف مصيره، فتزوجت امرأته من زوج آخر وبعد حين جاء زوجها، ما تقول في هذا؟ قال قتادة: أوقعت هذه المسألة؟ قال لا، فقال له وقد ظهر الغضب على وجهه:
فلما ذا تسألني عنها؟ قال له هذا الكلام المهم:" إننا نستعد للبلاء قبل نزوله فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه".
فتنته مع أبي هبيرة:
كان أبو هبيرة واليا بالكوفة في زمان بني أميّة، فظهرت الفتن بالعراق، فجمع فقهاءها ببابه وفيهم ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود بن أبي هند، فولّى كل واحد منهم صدرا من عمله، وأرسل إلى أبي حنيفة فأراد أن يجعل الخاتم في يده ولا ينفذ كتاب إلا من تحت يده ولا يخرج من بيت المال شيء إلا من

الصفحة 136