كتاب سلسلة ومضات إعجازية من القرآن والسنة النبوية (اسم الجزء: 14)

طلب الأحسن للإتباع الذي هو مأمور به كما قال تعالى: ... فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، [الزمر: 17 - 18]. وهو عند الفقهاء نوعان:
1 - العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع مدلولا إلى آرائنا نحو قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)، [البقرة: 236]، أوجب ذلك بحسب اليسار والعسرة وشرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أنّ المراد ما يعرف استحسانه بغالب الرأي ولا خلاف في هذا النوع.
2 - هو الدليل الذي يكون معارضا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إمعان التأمّل فيه، وبعد إمعان التأمل في حكم الحادثة وأشباهها من الأصول يظهر أنّ الذي عارضه فوقه في القوة، فإنّ العمل به هو الواجب، فسمّوه بذلك استحسانا للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام. مثاله: لو قال لامرأته:
إذا حضت فأنت طالق، فقالت: قد حضت، فكذّبها الزوج، فإنها لا تصدّق في القياس باعتبار الظاهر وهو أنّ الحيض شرط للطلاق كدخولها الدار وكلامها زيدا. وفي الاستحسان تطلّق لأن الحيض شيء في باطنها لا يقف عليه غيرها، فلا بد من قبول قولها فيه.
العرف والعادة: هو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول. وإنما يكون العرف دليلا حيث لا دليل شرعي من كتاب وسنة. قال ابن مسعود: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن ... وألّف ابن عابدين رسالة" العرف" تضمنت مسألة تضمين الخياط والكواء (ومثالهما إذا أحرقا القماش أو أضاعاه).
وأبو حنيفة هو أساس من جمع بين مذهبي أهل الحجاز أهل الحديث وأهل العراق أهل الرأي. كان أبو حنيفة من علماء الرأي ولكنه ذهب إلى الحجاز وأقام في مكة ست سنوات يأخذ العلم من علماء الحجاز أمثال عبد اللّه بن عمر ... يذكر أن أبا حنيفة دخل يوما على المنصور فقال له أحد الجالسين: هذا عالم الدنيا اليوم ... فقال له المنصور: يا نعمان من أين أخذت علمك؟ قال: من أصحاب عبد اللّه بن عمر عن عبد اللّه بن عمر (أهل الحديث) ومن أصحاب عبد اللّه بن عباس عن عبد اللّه بن عباس ومن أصحاب عبد اللّه بن مسعود عن عبد اللّه بن مسعود (أهل الرأي) ... إذا لأول مرة خرق أبو حنيفة الحدود الفاصلة بين المذهبين. عند ما ذهب إلى أهل الحجاز تعلم منهم

الصفحة 138