كتاب سلسلة ومضات إعجازية من القرآن والسنة النبوية (اسم الجزء: 14)
الإنسان وصل بدرجة اجتهاده إلى مرتبة هؤلاء الأئمة فلا بأس وعلى كل الأحوال هو بعد بحثه سيخرج بقول ما، وقوله أيضا سيكون اجتهاديا وهو غير معصوم فما ذا فعل إذا؟
وإذا أراد أحد العلماء في درس عام مثلا أن يرجّح قولا على قول فإنما يكون الهدف من ورائه أن يقول الناس إنّ فلانا عالما جليلا بلغ من العلم درجة يستطيع أن يحكم فيها على الأئمة ولن يفيد الناس شيئا إلا حملهم من تقليد أبي حنيفة أو الشافعي وغيرهما من الذين اتفقت الأمّة على وجوب تقليد واحد منهم، إلى تقليده هو في هذه القضية، فبما ذا يكون قد نفع المسلمين؟!!!. يقول المثل: من جهل شيئا عاداه. وبالفعل فالرجل الذي يسمع بإنسان عالم ويسمع آراءه واجتهاداته لكن ما جالسه وما سمع منه حججه، لن يستطيع أن يحكم عليه. عند ما لمع اسم أبي حنيفة وانتشر صيته في العراق وقبل أن يراه علماء الحجاز أو علماء الشام ربما كان هنالك كثير من علماء الحجاز من يضيق ذرعا باجتهاداته وربما نعتوه بأنه مبتدع ولكن بعد أن رأوه وجاء هو إلى الحجاز وجالسوه وسمعوا منه وسمعوا حججه اختلف الأمر تماما! مثال ذلك: يقول عبد اللّه بن المبارك إنّ الإمام الأوزاعي سأله من هو هذا المبتدع الذي ظهر في العراق (ويقصد أبا حنيفة)، فقال ابن المبارك: لم أجب، ثم أخذت أعرض له مسائل عويصة في الفقه وأحدثه عن فتاوى يمكن أن تكون جوابا، فقال لي: واللّه إنّ هذه الأجوبة لأجوبة سديدة، من هو صاحبها؟ قلت له: فقيه في العراق. قال: من هو؟ قلت: هو أبو حنيفة.
قال: إنّ هذا الإنسان نبيل وذو علم غزير فالزمه. ثم إنّ الأوزاعي التقى بعد ذلك بأبي حنيفة وتناقشا في كثير من المسائل العلمية فتحولت نظرة الأوزاعي وأخذ يوصي الناس بمجالس أبي حنيفة والاستكثار من علمه وفضله.
كثيرون اليوم هم الذين ينتقصون من مكانة أبي حنيفة وينتقدون فتاويه واجتهاداته وهذا سهل لأنهم يزنون تلك الاجتهادات بميزانهم هم، فتبين من خلال ميزانهم هذا أنّ أبا حنيفة جاهل مع العلم أنهم لن يكونوا أعلم من الأوزاعي أو عبد اللّه بن المبارك. ومما يذكر أيضا أنّ الشافعي عند ما رحل إلى بغداد، التقى بمحمد بن الحسن ليتتلمذ على يده ولو وسعه أن يتتلمذ على أبي حنيفة لفعل ولكنه لم يستطع بسبب وفاة أبي حنيفة في العام الذي ولد فيه الشافعي وكان يقول: أخذت من محمد وقر بعير من علم. وكثيرة هي المسائل التي أخذ فيها الشافعي برأي محمد وكثيرة هي المسائل التي اخذ فيها محمد برأي الشافعي وتراجع عن رأيه. فهناك مثلا من يتهم أبا حنيفة بأنه لم يكن يحفظ إلا