كتاب سلسلة ومضات إعجازية من القرآن والسنة النبوية (اسم الجزء: 14)

ونهره لانشغاله باللعب عن طلب العلم. وانفجر مالك بالبكاء وهو يأوي إلى صدر أمه، فضمّته إليها وعانقته ولاطفته وخففت عنه ما به من حزن وألم وفي اليوم التالي شدّت على رأسه عمامة جديدة وضمّخته بأطيب العطر وأشارت عليه بإتيان مسجد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه وسلّم والجلوس إلى حلقات العلم المنتشرة هناك ودعت له بالخير وبالتفقه والفهم والحفظ. ومنذ ذلك اليوم لازمته عادة الاستحمام والتطيب كلما أتى مجلس العلم سواء كان متعلما أو معلما فيكون في أحسن سمت وأكمل مظهر وأرقى صورة، ودخل مالك بوابة العلم الكبرى ولم يغادرها حتى توفاه اللّه تعالى. وكان يجد نفسه بحاجة إلى مزيد علم، فقد كان يهمه أحيانا أمر علمي أو مسألة فبعد أن تنفضّ الحلقات ويأوي الشيوخ إلى دورهم فلا يجد مالك صبرا إلى الغد كي يسأل ويفهم لذا راح يسعى إلى الشيوخ في بيوتهم ومساكنهم وقد ينتظر أحدهم في الطريق الساعات الطوال ما يجد فيها ظل شجرة تقيه حرارة الشمس حتى إذا ما رآه يدخل داره ينتظر لحظات ثم يقرع الباب وكان في بعض الأحيان يحمل معه تمرا يهديه لجارية الفقيه لتمكّنه من الدخول على العالم.
وتعلق بالعلم تعلقا جادا فلزم عبد الرحمن بن هرمز وهو عالم من أجلّ علماء المدينة سبع سنوات لم يختلف فيها إلى غيره وكان يأخذ عنه المسائل الاجتهادية وقضايا الفقه وكان ابن هرمز مشهورا بقوة عارضته ودلائل الحق ويقول الإمام مالك عن نفسه أنه اتخذ لنفسه ما يشبه الطرّاحة الصغيرة، كان يأخذها معه فيجلس على صخرة أمام دار ابن هرمز ولم يكن يطرق بابه خوفا من أن يزعجه منتظرا خروج الإمام يعني ابن هرمز إلى الصلاة، فإذا خرج اتبعه وذهب معه إلى المسجد.
ثم بدأ يأخذ عن نافع مولى (أي خادم) عبد اللّه بن عمر وكان من أحفظ علماء الحديث، كان حافظا وكان فقيها، أخذ الفقه والحديث عن ابن عمر ... ثم أخذ مالك أيضا عن الزهري وكان يلازمه كما لازم ابن هرمز وكان يسير معه من بيته إلى المسجد.
يقول الإمام مالك عن نفسه: كنت أخرج من وقت الظهيرة وليس للأشياء ظل أتيمم درسا عند الزهري ... وأخذ مالك الحديث عن الزهري مع قلة من إخوانه ويقال إن الزهري حدّثه في يوم من الأيام نيفا وأربعين حديثا له ولبعض زملائه، فلما عادوا في اليوم التالي قال الزهري: استحضرتم كتابا لتسجلوا ما أملي عليكم خيفة أن تنسوها؟، فقال قائل منهم ينبؤك عنها هذا الشاب الأشقر (أي الإمام مالك)، فسأله الزهري فتلا

الصفحة 147