كتاب سلسلة ومضات إعجازية من القرآن والسنة النبوية (اسم الجزء: 14)

احتكاكه بالعلماء من جميع أنحاء العالم الذين كانوا إذا قدموا المدينة زاروه وإن لم يزوروه قدم هو إليهم، يلقاهم ويتناقش معهم، لذلك اتسعت آفاقه الفكرية ومداركه الاجتهادية وأقام للمصلحة التي هي محور الشريعة الإسلامية ميزانا دقيقا ... واختار دار الصحابي الجليل عبد اللّه بن مسعود سكنا له وكأنه يريد أن يشعر على الدوام بنبضات عصر النبوة تخفق مع خفقات قلبه وتتردد مع أنفاسه ويعيش يومه كله في عبق كريم وهذا التواصل الوجداني بين مالك وبين حبيبه المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم جعله في عقله وحسه يتّخذ من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أساسا ومحورا لعلمه وفقهه.
كان مالك في صدر حياته فقيرا وكان والده صانعا، وتفرّغ مالك للعلم فأورثه ذلك شيئا من الفقر ولم تكن يومها تنفق الدولة على طلبة العلم (ثم لما كان ذلك ارتاح العلماء وازدهر العلم كثيرا)، لكنه بعد ذلك استغنى إذ كان له أخ يعمل بالتجارة فكان مالك إذا تجمع له مال يعطيه لأخيه ليتاجر له به ثم فتح اللّه عليه واستغنى فكان كثير العطاء لطلبة العلم. وكان يحب أن يظهر أثر نعمة اللّه عز وجل عليه في ملبسه وفي مطعمه ومسكنه وصار متجملا في مظهره وكان الذين يغشون داره من الضيوف يجدون في أطرافها المخدات للاتكاء والجلوس ويجدون كل أسباب الراحة والنظافة والمظهر الأنيق في داره ولم يكن هذا عن حب للمال بل كان ينفق معظم ماله في طرق الخير تماما كأبي حنيفة والشافعي رضي اللّه تعالى عنهم أجمعين.
ويروى عنه في الأثر المشهور أنه قال:" ما أحب لامرئ أنعم اللّه عليه أن يري أثر نعمته عليه وخاصة أهل العلم".
ويروي الشافعي أنه في إحدى زياراته لبيت الإمام مالك رأى على الباب هدايا من خيل وبغال أعجبته فقال لمالك بعد أن دخل عليه: ما أحسن هذه الأفراس والبغال. فرد عليه مالك يقول: هي لك فخذها جميعا. قال الشافعي: أ لا تبقي لك منها دابة تركبها؟
فقال مالك: إني لأستحي من اللّه تعالى أن أطأ تربة فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بحافر دابة!. إلى هذا الحد من الحساسية المفرطة في الحب والتقديس بلغ العشق في قلب مالك للمدينة التي تضم أطهر الأجساد وأعظم خلق اللّه وأكرم الناس عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ورعه وتخوّفه من الفتوى:
اشتهر عن الإمام مالك كثرة ترداده لكلمة" لا أدري" وما كان عليه شيء أسهل من هذه الكلمة ولم يكن يشعر أن في هذا منقصة له بل كان إذا

الصفحة 149