كتاب سلسلة ومضات إعجازية من القرآن والسنة النبوية (اسم الجزء: 14)
(اللهم إني أعوذ بك من الذل إلا إليك)، وأي إنسان صاحب ذوق دقيق يستطيع أن يفرّق بين التواضع والذل المرفوض ... ولما زار الرشيد المدينة وأراد لقاء مالك وكان قد سمع عن علمه الكثير، طلب أن يأتيه حيث نزل فقال مالك لرسول الخليفة: قل له إنّ طالب العلم يسعى إليه والعلم لا يسعى إلى أحد! فجاءه الخليفة زائرا معتذرا ...
ولقد روى الإمام مالك ذات مرة حديث" ليس على مستكره يمين" وشرحه لتلامذته في المسجد وراح يبيّن للناس أنّ من طلّق امرأته مكرها لا يقع منه طلاق ...
ولقد كان لهذا الحديث أثر كبير وحافز قوي لثورة أحد أحفاد الحسين بن علي وهو النفس الزكية على السلطة العباسية وكان الخليفة وقتها المنصور. كان محمد يرى بأن أبا جعفر قد أخذ البيعة لنفسه غصبا وإكراها فليس له في رقاب الناس يمين ولا عهد، وكان محمد يستند إلى فتوى مالك في أنه ليس على مستكره يمين. أحسّ والي المدينة بخطورة الموقف فأرسل إلى مالك أن يكفّ عن الكلام في هذا الحديث وأن يكتمه على الناس. أبى مالك أن يكتم الحديث أو أن يتراجع عن فتواه فضرب أسواطا على مرأى الناس وجذب جذبا غليظا من يديه وجرّ منها حتى انخلع أحد كتفيه وحمل إلى داره وهو بين الحياة والموت وألزموه الإقامة في الدار إقامة جبرية في عزلة وحبس. فزع الناس في المدينة والتجئوا إلى اللّه تعالى يشكون الظلم والظالمين واشتد سخطهم على الوالي وعلى الخليفة وغضب العلماء والفقهاء في كل الأمصار والأقطار. ورأى المنصور أنه لا بد من تصرّف يمتص غضب الناس يزيح التهمة عن نفسه فأمر والي المدينة بإطلاق مالك ثم جاء المنصور بنفسه إلى الحجاز في موسم الحج والتقى بالإمام مالك واعتذر إليه وقال: أنا ما أمرت بالذي كان ولا علمته وإنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم.
وأمر بإحضار الوالي مهانا وبضربه وحبسه إلا أنّ مالكا عفا عنه.
علم الإمام مالك وأقوال بعض العلماء فيه:
أجمع المؤرخون والمترجمون أن الإمام مالك بلغ الذروة في معرفة السنّة والحديث والفقه وقلما نال عالم مثلما نال مالك من المدح وأقرّ له علماء الرأي في العراق وعلماء الحديث في الحجاز بأنه إمام في كل منهما (أي الحديث والفقه). قال عنه سفيان بن عيينة وكان معاصرا له: كان لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا ولا يحدّث إلا عن ثقة للناس وما أدري المدينة إلا ستخرب بعد موت مالك ... قال عنه الشافعي: إذا جاءك الأثر عن مالك فشدّ به (أي تمسّك به) وهو