كتاب سلسلة ومضات إعجازية من القرآن والسنة النبوية (اسم الجزء: 14)
مالكا، يقول أنه ابتاع طائرا من رجل أقسم البائع باللّه تعالى وفي رواية بالطلاق أنّ طائره هذا لا يفتأ عن التغريد. فلما أخذه الشاري وجده يغرد حينا ويسكت حينا، فسأل مالكا فقال له: لك حق خيار العيب (أي أنه لك الحق في رده بسبب عيب فيه) وقد حنث في يمينه أو على الرواية الأخرى وقع الطلاق. وكان الشافعي جالسا في ذلك المجلس ولكنه لم يتكلم أدبا مع شيخه مالك. فلما ذهب الرجل لحق به وسأله: طائرك يغرد في اليوم أكثر أو يسكت أكثر؟ قال الرجل: بل التغريد أكثر، فقال له الشافعي: إذا البيع صحيح وليس لك خيار العيب ولم يحنث وفي تلك الرواية لم يقع الطلاق. فجاء الرجل إلى مالك، فلما ناقشه الشافعي قال له: يا سيدي، الألفاظ التي ننطق بها إنما نضعها في ميزان العرف الشرعي إن وجد (مثل الطلاق والعتق ... )، لكن إن فقد العرف الشرعي عندئذ نشرحه بالعرف اللغوي الدراج بين الناس فإن فقد العرف اللغوي الدارج بين الناس نعود إلى اللغة العربية في جذورها وأمهاتها. ونحن نعود في هذا إلى كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقد روينا عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنّ امرأة جاءت تستشيره في رجلين قد خطباها فأيهما تتزوج، فقال لها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: أما فلان فلا يضع العصا عن عاتقه وأما فلان فصعلوك (أي لا يليق بك من حيث المستوى الاجتماعي وغيره). قال الشافعي:
فقوله صلّى اللّه عليه وسلّم لا يضع العصا عن عاتقه كناية عن كثرة السفر وقد علمت أنه يصلي فيضع العصا عن عاتقه ويأكل ويضعها عن عاتقه وينام ويغتسل وفي كل ذلك يضع العصا عن عاتقه ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صادق فيما يقول، إذا هذه الكلمة سارت مسار العرف الدراج وهنا (أي في مسألة الطائر) عرف في السوق لو قال البائع هذا الطائر لا يفتأ عن التغريد يعني أنّ أكثر أوقاته التغريد.
وكان الشافعي يتمسك بالأحاديث الصحيحة ويعرض عن الأخبار الواهية والموضوعة.
واعتنى بذلك عناية فائقة. وقال الشافعي ذاكرا فضل اللّه تعالى عليه: ما كذبت قط وما حلفت قط باللّه تعالى صادقا ولا كاذبا. قال أبو زرعة: ما عند الشافعي حديث فيه غلط.
وقد وضع الشافعي في فن مصطلح الحديث مصطلحات كثيرة، لم يسبق إليها مثل:
الاتصال والشاذ والثقة والفرق بين حدّثنا وأخبرنا ...