كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 14)
فَانْطَلَقَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَبَطَ نَفْسَهُ فِي سَارِيَةٍ وَأَقْسَمَ أَلَّا يَبْرَحَ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَحُلُّهُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ: فِيهِ نَزَلَتْ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ" «1» [الأنفال: 27] الْآيَةَ. وَأَقْسَمَ أَلَّا يَدْخُلَ أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَبَدًا مَكَانًا أَصَابَ فِيهِ الذَّنْبَ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَعَلَ أَبِي لُبَابَةَ قَالَ: (أَمَا إِنَّهُ لَوْ أَتَانِي لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ وَأَمَا إِذْ فَعَلَ مَا فَعَلَ فَلَا أُطْلِقُهُ حَتَّى يُطْلِقَهُ اللَّهُ تَعَالَى) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ أَبِي لُبَابَةَ:" وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ" «2» [التوبة: 102] الْآيَةَ. فَلَمَّا نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بَنُو قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَوَاثَبَ الْأَوْسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُمْ حُلَفَاؤُنَا، وَقَدْ أَسْعَفْتَ «3» عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ فِي بَنِي النَّضِيرِ حُلَفَاءِ الْخَزْرَجِ، فَلَا يَكُنْ حَظُّنَا أَوْكَسَ وَأَنْقَصَ عِنْدَكَ مِنْ حَظِّ غَيْرِنَا، فَهُمْ مَوَالِينَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ- قَالُوا بَلَى. قَالَ-: فَذَلِكَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ (. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ضَرَبَ لَهُ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ، لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ فِي مَرَضِهِ مِنْ جُرْحِهِ الَّذِي أَصَابَهُ فِي الْخَنْدَقِ. فَحَكَمَ فِيهِمْ بِأَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالنِّسَاءُ، وَتُقَسَّمَ أَمْوَالُهُمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ أَرْقِعَةٍ) «4». وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْرِجُوا إِلَى مَوْضِعٍ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ- زَمَنَ ابْنِ إِسْحَاقَ- فَخَنْدَقَ بِهَا خَنَادِقَ، ثُمَّ أَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ فِي تِلْكَ الْخَنَادِقِ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَكَانَا رَأْسَ الْقَوْمِ، وَكَانُوا مِنَ السِّتِّمِائَةِ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ. وَكَانَ عَلَى
حُيَيٍّ حُلَّةٌ فُقَّاحِيَّةٌ «5» قَدْ شَقَّقَهَا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ كَمَوْضِعِ الْأُنْمُلَةِ، أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً لِئَلَّا يُسْلَبَهَا. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى رَسُولِ الله
__________
(1). راجع ج 7 ص 394.
(2). راجع ج 8 ص 242.
(3). الاسعاف: قضاء الحاجة. [ ..... ]
(4). أرقعة جمع رقيع والرقيع السماء سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم.
(5). أي بلون الورد حين أن ينفتح.
الصفحة 140