كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 14)
مضافا حذف كما حذف المضاف في" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «1»
[يوسف: 82] أَيِ اصْطَفَيْنَا دِينَهُمْ فَبَقِيَ اصْطَفَيْنَاهُمْ، فَحُذِفَ الْعَائِدُ إِلَى الْمَوْصُولِ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ:" وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ" «2»
[هود: 31] أَيْ تَزْدَرِيهِمْ، فَالِاصْطِفَاءُ إِذًا مُوَجَّهٌ إِلَى دِينِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ «3»
الدِّينَ" [البقرة: 132]. قَالَ النَّحَّاسُ: وَقَوْلٌ ثَالِثٌ- يَكُونُ الظَّالِمُ صَاحِبُ الْكَبَائِرِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَنَّةَ بِزِيَادَةِ حَسَنَاتِهِ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَيَكُونُ:" جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها" لِلَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ لَا غَيْرَ. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي حقيقة النظر لما يَلِيهِ أَوْلَى. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْوَسَطُ أَوْلَاهَا وَأَصَحُّهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ لَمْ يُصْطَفَوْا بِحَمْدِ اللَّهِ، وَلَا اصْطُفِيَ دِينُهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَسْبُكَ. وَسَنَزِيدُهُ بَيَانًا وَإِيضَاحًا فِي بَاقِي الْآيَةِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) أَيْ أَعْطَيْنَا. وَالْمِيرَاثُ عَطَاءٌ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيمَا صَارَ لِلْإِنْسَانِ بعد موت آخر. و" الْكِتابَ" ها هنا يُرِيدُ بِهِ مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَعِلْمِهِ وَأَحْكَامِهِ وَعَقَائِدِهِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَى أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَهُوَ قَدْ تَضَمَّنَ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْمُنْزَّلَةِ، فَكَأَنَّهُ وَرَّثَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ الَّذِي كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَنَا. (اصْطَفَيْنا) أَيِ اخْتَرْنَا. وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الصَّفْوِ، وَهُوَ الْخُلُوصُ مِنْ شَوَائِبِ الْكَدَرِ. وَأَصْلُهُ اصْتَفَوْنَا، فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً وَالْوَاوُ يَاءً. (مِنْ عِبادِنا) قِيلَ الْمُرَادُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَكَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، إِلَّا أَنَّ عِبَارَةَ تَوْرِيثِ الْكِتَابِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأُوَلُ لَمْ يَرِثُوهُ. وَقِيلَ: الْمُصْطَفَوْنَ الْأَنْبِيَاءُ، تَوَارَثُوا الْكِتَابَ بِمَعْنَى أَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْ بَعْضِهِمْ إِلَى آخَرَ، قَالَ اللَّهُ تعالى:" وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ" «4»
[النمل: 16]، وقال:" يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" «5»
[مريم: 6] فَإِذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ النُّبُوَّةُ مَوْرُوثَةً فَكَذَلِكَ الْكِتَابُ." فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ" مَنْ وَقَعَ فِي صغيرة. قال أبن عطية: وهذا
__________
(1). راجع ج 9 ص 245.
(2). راجع ج 9 ص 27.
(3). راجع ج 2 ص 134 فما بعد.
(4). راجع ج 13 ص 163 فما بعد.
(5). راجع ج 11 ص 73 فما بعد.
الصفحة 347