كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 14)

قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: أمهلتها مع استمرارهم على ظلمهم، فاغتروا بذلك التأخير، «ثُمَّ أَخَذْتُهُم» بأن أنزلت العذاب بهم ومع ذلك فعذابهم مدخر، وهو معنى قوله «وَإليَّ المَصِير» . فإن قيل: ما الفائدة في قوله أولاً «فكأين» بالفاء، وهاهنا قال «وكأين» بالواو؟
فالجواب: أن الأولى وقعت بدلاً من قوله {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] ، وأما هذه فحكمها ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعني قوله: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} .
قوله: {قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أمر رسوله بأن يديم لهم التخويف والإنذار، وأن لا يصده استعجالهم للعذاب على سبيل الهزء عن إدامة التخويف والإنذار، وأن يقول لهم: إنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه.
قوله: {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . لما أمر الرسول بأن يقول لهم: إني نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم، لأن هذه صفة المنذر، فقال: {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فجمع بين الوصفين، وهذا يدل على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان، وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان، ويدخل في العمل الصالح كل واجب وترك المحظور، ثم بين تعالى أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم، فالمغفرة عبارة عن غفران الصغائر، أو عن غفران الكبائر بعد التوبة، أو عن غفرانها قبل التوبة، والأولان واجبان عند الخصم، وأداء الواجب لا يسمى غفراناً فبقي الثالث وهو العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة.
وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب، والكريم: هو الذي لا ينقطع أبداً وقيل: هو الجنة.
قوله: {والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي: اجتهدوا في ردها والتكذيب بها وسموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين، يقال لمن بذل جهده في أمر: إنه سعى فيه توسعاً، كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال: إنه سعى، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازاً، قال الزمخشري: يقال: سعيت في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه.
قوله: «مُعَجِّزِينَ» قرأ أبو عمرو وابن كثير بتشديد الجيم هنا وفي حرفي سبأ.

الصفحة 114