كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 14)

أن لا يجوز عليهم شيئاً من ذلك، لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى على تركها نحو الفظاظة وقول الشعر، فقد ظهر القطع بكذب هذه الوجوه المذكورة في قوله: الغرانيق العلا هذا إذا فسرنا التمني بالتلاوة.
فأما إن فسرنا التمني بالخاطر وتمني القلب، فالمعنى أنه - عليه السلام - إذا تمنى بعض ما يتمناه من الأمور وسوس إليه الشيطان بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته. ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه:
أحدها: أنه تمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا: إنه - عليه السلام - كان يحب أن يتألفهم، فكان يتردد ذلك في نفسه، فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه، وهذا أيضاً خروج عن الدين لما تقدم.
وثانيها: قال مجاهد إنه - عليه السلام - كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير، فنسخ الله ذلك بأن عرفه أن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها.
وثالثها: يحتمل أنه - عليه السلام - عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إذا كان مجملاً، فيلقي الشيطان في جملته ما لم ينزل، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده بأدلته وآياته.
ورابعها: معنى «إذَا تَمَنَّى» إذا أراد فعلاً مقرباً إلى الله ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه، فرجع إلى الله في ذلك، وهو كقوله: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] ، وكقوله: {وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200] . ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب، لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتنة للكفار، وذلك يبطله قوله: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ} .
والجواب: لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار.

الصفحة 123