كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 32)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
وحدث بذلك مرارا وقرأ عليه القرآن جماعة فأجاز منهم الشيخ أبا عبد الله محمد بن
حسن الضرير دون غيره لإتقانه وكان يقول قرأ على خلق من أهل البلد وما جاز لي
أن أجيز غير أبي عبد الله وقرأ الشيخ رحمه الله النحو والتصريف على الشيخ بهاء
الدين بن النحاس واشتغل على مذهب الإمام أبي حنيفة واشتغل بأصول الفقه على أبي
عبد الله محمد بن الحراني ، وكتب الحديث هذا كله مع الزهد والانقطاع والعبادة
وأقبل عليه ملوك عصره وأكابر أمراء الدول والأعيان وترددوا إليه في الدولة الظاهرية
وما بعدها وكان أكثرهم به خصوصية واجتماعا وترددا إليه وامتثالا لأمره ورجوعا إلى
إشاراته الأمير ركن الدين بيبرس العثماني المنصوري الجاشنكير ، وهو الذي ملك
الديار المصرية ولقب في سلطنته بالملك المظفر فكان يقضي عنده حوائج الناس ،
ويصل أرزاقهم واستماله الشيخ إلى الخير وحسن فعله فوقف بأمره وإشارته ما قدمنا
ذكره بجامع الحاكم والخانقاه والرباط وغير ذلك من وجوه البر ، وكان الشيخ يكره
الاجتماع بالأكابر وتلجئه الضرورة إلى ذلك لما يحصل بسبب اجتماعهم به من النفع
المتعدي إلى غيره ، ومما يدل على كراهته لذلك أنه كان ينقطع عن الاجتماع بالناس
ومشافهتهم أربعة أشهر في السنة وهي رجب وشعبان ورمضان وذو الحجة ثم انقطع
ستة أشهر من السنة ثم جعل انقطاعه في آخر عمره ثمانية أشهر وفي مدة انقطاعه لا
يشافه بكلامه غير خادمه وابن أخته الشيخ قطب الدين عبد الكريم وأخبرني المشار إليه
أن الشيخ ما زال يسأل الله تعالى أن يخفف عنه تردد الناس إليه فاستجاب الله تعالى له
وانقطع الناس عنه قبل وفاته مدة تفرغ فيها لعبادة ربه ، وكنت أجتمع به في بعض
الأحيان بزاويته وأخلو به في خلوته فيتحدث معي ويدعو لي وتظهر لي منه دلائل
المحبة والميل إلي ، وكنت أقصد رؤيته في زمن انقطاعه عن الاجتماع بالناس فأحضر
إلى الجامع الحكمي في يوم الجمعة قبل حضوره فإذا جاء قمت إليه وتلقيته وسلمت
عليه وصافحته فيرد علي السلام الشرعي لا يزيدني ولا غيري عن ذلك ، وأما في غير
زمن انقطاعه فيسألني عن حالي وما تجدد لي ، وأخبرني الشيخ قطب الدين ابن أخيه
نفع الله به أن الشيخ سأله في الساعة الثالثة من يوم وفاته هل قارب أذان العصر ؟ قال
فقلت له : يا سيدي بقي للعصر كثير ، ثم ذكر ذلك في الخامسة ، ثم أعاده وقت أذان
الظهر قال : ورأيته يفرح بأذان العصر فلما أذن المؤذن بالعصر خرجت روحه الطاهرة
المطمئنة ورجعت إلى ربها راضية مرضية قدس الله تعالى روحه ونفعنا ببركاته .
وفي هذه السنة كانت وفاة الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك الزاهر
مجير الدين داود ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه ابن الملك القاهر ناصر