كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 32)

"""""" صفحة رقم 24 """"""
الخميس على الخميس ، ودارت رحا الحرب الزبون ، وغنت السيوف بشرب
الكماة كأس المنون ، والسلطان قد ثبت في موقف المنايا ، حتى كأنه في جفن الردى
وهو نائم ، ورأى الأبطال من أوليائه جرحى في سبيل الله والأعداء مهزومين . والوجه
منه وضاح والثغر باسم ، وقابل العدو بصدره وقاتل حتى أفنى حديد بيضه وسمره ،
وخاطر بنفسه والموت أقرب إليه من حبل الوريد . ونكب عن ذكر العواقب جانبا ،
ولم يستصحب إلا سيفه المبيد ، واشتد أزرا بأمرائه الذين رأوا الحياة في هذا اليوم
مغرما ، وعدوا الممات فيه مغنما وقالوا : لا حياة إلا بنصر الإسلام ، ولا استقرار حتى
تطأ بين يدي السلطان سنابك الخيول هذا الهام ، وما أعددنا العزائم إلا لهذا الموقف ،
ولا أحددنا الصوارم وخبأناها إلا لنبذلها في السفك فنسرف ، وهم بين يدي سلطانهم
يحثون جيوشهم على المصابرة ، ويقولون : هذا يوم تصيبنا فيه إحدى الحسنيين ، فإما
سعادة الدنيا وإما جنة الآخرة ، وقالت الملائكة للجيوش المنصورة : يا خيل الله اركبي
ويا يد النصر اكتبي ، وقامت الحرب على ساق ) والتفت الساق بالساق ، إلى ربك يومئذ
المساق ( [ القيامة : الآيتان 29 ، 30 ] ، وأتى العدو جملة واحدة ، وحمل حملة أمست
بالنفوس جائدة ، ونكب عن الميسرة وقصد الميمنة والقلب ، وهاله جمع الإسلام فأراد
أن يخلص بانحيازه من شدة ذلك الكرب ، واستمرت المناضلة تمتد بين الفريقين
وتنتشر ، والمؤمنون قد وفوا بما عاهدوا الله عليه . ) فمنهم من قضى نحبه ومنهم من
ينتظر ( [ الأحزاب : الآية 23 ] ، ومولانا السلطان يردف مواكبه بحملاته ، ويقدم فتخشى الأعداء مواقع مهابته وترجو الأولياء منافع هباته ، ويرى غمرات الموت ثم يزورها ،
ويمر في مجال المنايا فيحلو له مريرها ومزورها ، ويقاسم سيوف العدى شر قسمة ،
فعلى عاتقه غواشيها وفي صدورهم صدورها .
ولما كان وقت المغرب لجؤوا - خذلهم الله - إلى هضاب اعتقدوا أن فيها
النجاة ، وقالوا : نأوي إلى جبل يعصمنا من الموت ونسوا أنه لا عاصم اليوم من أمر
الله . [ من الرجز ]
راموا النجاة وكيف تنجو عصبة
مطلوبة بالله والسلطان ؟

الصفحة 24