كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 32)

"""""" صفحة رقم 25 """"""
وحصرتهم العساكر الإسلامية بعزائم كالشهاب أو النار ، ودارت عليهم كالسوار
والسوار ، وصيرتهم بقدرة الله في ربقة الإسار ، وقاتلتهم الجيوش المنصورة غير
مستجنة بقرى محصنة ولا من وراء جدار ، تتلظى كبودهم عطشا وجوعا ، ويكادون من
شدة الهجير يشربون من سيل قتلاهم نجيعا ، ويودون لو كانوا أولى أجنحة ،
ويندمون حين رأوا صفقتهم خاسرة وكان ظنهم أنها تكون مربحة ، ويأسفون على
فوات النجاة ، ويتحيرون عند مواقعة الجيوش المؤيدة حيث رأوا ما شملها من نصر ،
ويتضرمون بنار الخيبة على حركتهم التي أدبرت لهم مآبا ، وينظرون فيما أسلفوه من
ذنوب ولسان الانتقام يتلو عليهم ) يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت
ترابا ( [ النبأ : الآية 40 ] .
ودخلت ليلة الأحد وهم في حصرهم وقد أوقعهم الله في حبائل مكرهم ،
وأراهم من الحصر والضيق ما لا رأوه مدة عمرهم ، وأيقنوا بالهلاك ، وتحققوا أن لا
خلاص لهم من تلك الأشراك ، ولو سمعوا ما سبق من الإنذار لما أتوا للمبارزة
مظهرين ، ولو علموا سوء صباحهم كفروا عشاء ونجوا من قبل أن يتلى في حقهم
) فساء صباح المنذرين ( [ الصافات : الآية 177 ] وأصبح الإسلام يوم الأحد في قوته
المنيعة ، وأرواح العدى في أجسادهم وديعة ، ومولانا السلطان يصطبح من دمائهم كما
اغتبق ، ويريهم عزما ينثر عقد اجتماعهم الذي انتظم واتسق ، ويفهمهم أنه لا مرد له
عن مراد الصوارم ، وأنه لا يفارق الجبل حتى يجعل عوض أحجاره جماجم ، وأمراؤه
- أعز الله نصرهم بين يديه - أولو همم في الحرب وأولو عزائم ، ) يجاهدون في سبيل الله
ولا يخافون لومة لائم ( [ المائدة : الآية 54 ] يعدون المصابرة في طاعة الله وطاعة سلطانهم
غنيمة جمعت لهم أسباب الفخار ؛ ويمتازون بأن منهم من هاجر إليه ، ومنهم من
نصره ، فعدوا - حقا - كونهم مع محمد تابعي المهاجرين والأنصار ، وزحف السلطان
وبين يديه امراؤه وعساكره المؤيدة فضيقوا عليهم الخناق ، وأحدقوا بهم إحداق الهدب
بالأحداق ، وراسلوهم بالسهام ، وشافهوهم بالكلام لا الكلام ، ورفعوا من راياتهم
المنصورة ما طاول المنشآت في البحر كالأعلام ، وحمل بها الأبطال ، فكلما رآها
العدى تهتز بتحريك نسيم النصر سكنوا خوف الحمام ، ثم فرجوا لهم عن فرجة من
جانب الجبل ظنوها فرجا ، وخيل لهم أنه من سلك تلك الفرجة سلك طريقا مستقيما ،
وما دروا أنه سلك طريقا عوجا ، واستترت لهم الجيوش المنصورة إلى الوطاة لتمكن

الصفحة 25