كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 32)

"""""" صفحة رقم 26 """"""
سيوفها من سفكهم ، ويقرب مدى هلكهم ، وتسلمهم إلى الحمام الذي لا ينجي منه
خيل ولا جبل ، وتملأ الوطاة من دمائهم ، فتساوى السهل من قتلاهم بالجبل ، وحل
الحمام بساحتهم ، وامتدت الأيدي لاستباحتهم ، وضاقت عليهم المسالك ، وغلبوا
هنالك ، وأنزل الله نصره على المؤمنين وأيدهم بجنود لم يروها ، واشترى منهم
أنفسهم بأن لهم الجنة - فيا طيب ما شروها ، وفرت من العدو فرقة ، وضلت في حالة
الحرب عن السيف فأدركهم العزم الماضي الغرار وتلا عليهم لسان الحق ) قل لن
ينفعكم الفرار ( [ الأحزاب : الآية 16 ] وما انقضى ظهر يوم الأحد إلا والنصر قد خفقت
بنوده ، والحق - سبحانه وتعالى - قد صدقت وعوده ، وطائر الظفر قد رفرف بجناحه
وطار باليمن والسرور ونسيم الريح قد تحملت رسالة التأييد ، فصارت إلى الإسلام
بالصبا وإلى العدو بالدبور والألطاف - ولله الحمد - قد زادت للإسلام قوة وتمكينا ،
ولسان النصر يتلو على السلطان ) إنا فتحنا لك فتحا مبينا ( [ الفتح : الآية 1 ] والسيف
قد طهر ديار الإسلام من تلك الأدناس ومولانا السلطان يتلو ) ذلك من فضل الله
علينا وعلى الناس ( [ يوسف : الآية 38 ] ، وأمست الوحوش تنوش أشلاءهم ، والحوائم ترد
دماءهم ، والعساكر في أعقابهم تقتل وتأسر ، وتبدي في استئصالهم كل عزيمة وتظهر ،
وتنظم أسنتها برؤوس القتلى ، وتعقد لها على عقائل النصر فتزف لديها وتجلي ، إلى
أن ناحتهم بالخيف من مكان قريب ، وبسطت فيهم السيف فسأل الأسر أن يسمح له
بحظ فأعطي أيسر نصيب ، وملئت من قتلاهم القفار ، وأمسوا حديثا في الأمصار ،
وعبرة لأولي الأبصار .
ثم رحل السلطان يوم الاثنين الرابع من شهر رمضان المعظم إلى منزلة الكسوة
من مكان النصر ، وبقاعه تنبئ على معاليه ، وتشهد بمضاء قواضبه ونفوذ عواليه ،
ودمشق قد أخذت زخرفها وازينت ، وتبرجت محاسنها للنواظر ، وما باتت بل تبيتت ،
وكادت جددها تسعى للقائه ، لتؤدي السنة من خدمته والفرض ، غير أنها استنابت
الأنهار فسعت وقبلت بين يدي جواده الأرض .
ثم رحل في يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان ، ودخلها في هذا اليوم
والملائكة تحييه عن ربه بتحية وإكرام ، وتتلو عليه وعلى جيوشه ) ادخلوها بسلام (
[ الحجر : الآية 46 ] في موكب كأنه نظام الدرر ، أو روضة كلها زهر ، بل هو
- حقا - هالة القمر ، والدنيا قد تاهت به عجبا والناس يدعون لسلطان قد شغفوا

الصفحة 26