كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 32)

"""""" صفحة رقم 27 """"""
بدولته حبا ، ويتعجبون من نضارة ملكه الذي سر النواظر ، ويرون أولياءه في فلك
إنعامه ، فيقولون :
أبدلت الأرض غير الأرض أو صارت سماء وإلا فما هذا القمر حوله النجوم
الزواهر وعادت المآتم بدمشق أفراحا وأعراسا ، وربوع الهناء قد عوضها أمن مقدمه
عن الوحشة إيناسا ، والقلعة بآلات حصارها مزينة قائلة : كيف يستباح حماي وأنا بهذا
السلطان محصنة ، وشهادته محصنة .
هذا والأنهار تساير ركابه وقد صبغت من دماء العدى بأحمر قان ، والأشجار
تميل طربا بالهنا ، كما يميل النشوان بين الأغاني ، والحمام يطرب بحسن الألحان
والتغريد ، وقد أقسمت لا تنوخ ، وكيف تنوح وقد خضبت كفها وطوقت الجيد ،
والناس يقولون : أيا عجبا في أول رمضان يكون عيد ، وفي آخره عيد ؟ والعزائم
للعدى تردي ، وبنصر الله ترتدي ، وتهتز بردى تقول عند تغريد الحمامة :
" يا برد ذاك الذي قالت على كبدي " والأقاليم قد تاهت بسلطانها بهجة وسرورا ،
وهام الجوزاء تود لو كانت منبرا وسريرا ، والرعايا تقول : هذا الملك الذي حمى الله
بعزائمه الديار ، وأدار العدى إلى دار البوار ، ووقف لا يبتغي إلا وجه ربه ، وقابل
اليوم بنفسه وبكتائبه ، وناضل الأمس بكتبه ، والله لدعائهم سامع ومجيب ، ومكافئه
بكل فتح مبين ونصر قريب .
ووصل الميدان الأخضر وقد أذاق العدو الأزرق الموت الأحمر ، في يوم السعد
الأبيض ، بعلم النصر الأصفر - إلى القصر الأبلق ، وقد طلع شمسا في سماء الملك
أنار به أفق الآفاق وأشرق ، ففخر القصر بحلوله فيه ، وقال : هذا اليوم الذي كنت
أرتجيه ، وهذا الوقت الذي ما برحت تبشرني به نسمات البكر والأصائل . لأنها تمر
لطيفة ، فأعلم أن معها منه - خلد الله ملكه - رسائل ، وهذا الملك الذي أعرف فيه من
الله شمائل ؛ فغبطته القلعة المنصورة ، وسألته أن لا تبقى بغير الجسد محسورة ،
وفاخرت القصر بمالها من محاسن ، وما شرفت به من إشراف على أنضر الأماكن ،
وامتازت به من حصانتها الذي ما امتطى سواه ذروتها ، ولا علا غيره - خلد الله ملكه -
صهوتها ، فأراد أن يعظم لقلعته الشأن - فحل بها مرة ثم بتلك أخرى ، وطاب بحلوله
الواديان .
ثم أذهب عن أوليائه وجيوشه مشقة التعب ، ببذل الذهب ، وأنسى بمكارمه حاتم
طيء ، فلو عاش لاستجدى مما وهب ، وأمر بعود نواب ممالكه إلى أماكنهم
المحروسة ، وقال : قد خلت ربوعكم هذه المدة .

الصفحة 27