كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 32)

"""""" صفحة رقم 28 """"""
وحيث حللنا بالبلاد نبتغي أن تكون مأنوسة ، فتضاعف الشكر على إتمام هذه
النعمة ، وابتهلت الألسن بالمحامد ، وكيف لا وقد طلع صبح النصر فجلى ليل تلك
الغمة ، وشكر الناس منة الله التي أعادت إليهم بالأمن الوسن ، ) وقالوا الحمد لله
الذي أذهب عنا الحزن ( [ فاطر : الآية 34 ] وأقام بدمشق المحروسة يتبوأ منها أحسن
الغرفات ، واستقر من بقاعها في جنات ، فحييت به بعد الممات ، وعادت بمقدمه
إلى جسدها الروح بعد المفارقة ، وتمتعت مقلتها من محاسنه بأبهى من رياضها
الرائقة ، وهو يحمي حماها ، ويحلي مواطن ملكها الزواهر رباها ، ويزينها بمواكبه
التي ماثلت الكواكب في سنائها وسناها ، وتطأ سنابك جياده أرضها فيداني الثريا في
الافتخار ثراها ، إلى أن قضى شهر صيامه المقبول . وأتاه عيد الفطر مبشرا بإدراك
آماله في عز مستمر ونصر موصول ، وأسبغ من عطاياه ما أربى على عدد أمواج
البحر ، وتعددت لدولته المسرات في هذا الشهر الميمون ، فآخره عيد فطر ، وأوله
عيد نحر .
ثم رحل عن دمشق في يوم الثلاثاء ثالث شوال ، ويعز عليها أن تفارقه . أو تبعد
عن محياه الذي أنار مغارب الملك ومشارقه ، أو يسير عنها عزمه الذي إن غاب أغنت
مهابته ، أو حضر أرهف على العدو بوارقه ، وأغصان رياضها تحسد بنود سناجقه ،
وأوراق روحها تود لو كانت مكان أعلامه وخوافقه ، وزهرها يتمنى لو كان وشيا لحلل
جياده ، وأرضها النضرة تكاد تنطوي بين يديه لتكون مراكز السعادة ، وقصرها الأبلق
يتوسل إليه في أن يتخذه بدل خيامه ، وستائره ليسر مسكنه فيه ومقامه ، ومصر تبعث
إليه مع النسيم رسائل ، وتبذل له في تعجيل عوده وسائل ، وكرسي سلطنتها يود لو
سعى من شوق إليه ، أو شافهه بالهناء وبالنعمة التي أتمها الله عليه ، فلبى دعوتها ولم
يطل جفوتها ، وسار إليها سير الأقمار إلى منازل الضياء والنور ، ووطئ بمواكبه
الأرض فظهرت بها من مواطئ جياده أهلة ، ومن آثار أخفاف مطيه بدور ، ووصل
ديار مصر المحروسة وقد زفت عروسا تجلى في أبهى الحلل ، وجمعت أنواع
المحاسن ، فلا يقال لشيء منها كمل لو أن ذا كمل ، وفضح الدجى إشراقها ، وبهر
العيون جمالها ، فإلى أقصى حدائق حسنها . رنت أحداقها ، وسبت النفوس منازلها ،
وكيف لا ، وهي المنازل التي لم نزل نشتاقها ، وشغلت القلوب أبياتها ، وكيف لا وقد
زانها ترصيعها وطباقها ، وحوت من البهاء ما لو حوته البدور لما شانها بعد التمام

الصفحة 28