كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 32)

"""""" صفحة رقم 29 """"""
محاقها ، وأمست روضة أثمرت اللآلي والدرر ، وفلكا زها بالمشرقات فيه ، وكيف لا
وفي كل ناحية من وجهها قمر .
وحل - خلد الله ملكه - بظاهر القاهرة فكادت تسير لخدمته بأهلها وجدرانها ،
غير أنه أثقلها الحلي فأخرها لتبدو إليه في أوانها المراد ، وما أحسن الأشياء في
أوانها ، وهم نيلها أن يجري في طريقه لكنه أخره النقص والتقصير ، واستحيا أن يقابله
وهو دون غاية التمام ، أو يسير من مواكب أمواجه في عدد يسير ، وخشي أن يتخلل
السبل بين يديه فيحصل في ريها الخلل ، أو تظهر عليه - كونه في زمن توحمه - حمرة
الخجل ، وكأن عمود مقياسه قد آلى أن لا يضع أصابعه في اليم إلا بإذن سلطانه ، ولا
يلبس ثوب خلوق إلا ما يزره عليه ببنانه ، ولا يأتي بزيادة إلا بعد مقدمه ، وكيف لا
ومدده من إحسانه ؟
وركب سحر الاثنين الثالث والعشرين من شوال سنة اثنتين وسبعمائة من ظاهر
القاهرة في موكب حف به الظفر ، وأضحى حديثا للأنام وذكرى للبشر ، وسيفه
المنصور قد أذهب عن الملة الإسلامية ليل الخطب ومحا ، والأمة يترقبون طلوع فجر
بدره ، ولسان المسرة يتلو عليهم ) موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ( [ طه : الآية
59 ] ودخل البلد وقد تزايدت بمقدمه سرورا وبشرا ، وأنشدته : [ من الخفيف ]
أنت غيث إذا وردت إلى الشام
ونيل إذا تيممت مصرا
أطلع الشرق من جبينك شمسا
ليس تخفى ومن محياك بدرا
كان أمر التتار مستصعب الحال
فصيرت عسر ذلك يسرا
وفتحت له أبواب نصرها التي يفضى منها إلى نعمة ونعيم ، وشاهدته عيون
أهلها . ) فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك
كريم ( [ يوسف : الآية 31 ] والرعايا قد أصبحوا كما أمسوا بالدعاء له مبتهلين ،
والألسنة تتلو عليه وعلى أمرائه ) ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ( [ يوسف : الآية 99 ]
وقد أظلته سماء أديمها الحرير ، ونجومها الذهب ، وسحبها تنثر اللؤلؤ المكنون ،
وحيل بين سنابك خيله وبين الأرض بأثواب من استبرق تستوقف العيون ، وكوفئت
عن وطء الأحجار بالأمس في سبيل الله بوطء الديباج في هذا اليوم ، وكادت الأيدي
تلمس معارفها تبركا بترب الجهاد الذي حملت إليه أكرم قوم ، فرأى فيها جنة
أوردت من مناهلها كوثرا ، وكان قد أنهي بين يديه حديث زينتها فوجد خبرها يجاوز
خبرا ، ولم يجد بها عيبا غير أن صباحها حمدت به الأجفان عاقبة السرى ، وتبرجت

الصفحة 29