كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 32)

"""""" صفحة رقم 39 """"""
وكانت الغيوم قد عمت السماء ، فطلع الناس للعادة مع تحقيقهم أنهم لا يرون شيئا ،
فاتفق عند ارتقابهم مطلع الهلال انفراج دائرة من الغيم ظهر من تحتها الهلال ، فلما
عاينه الناس التأم الغيم لوقته ، وصام الناس عن رؤية ويقين ، وما علمت كان هذا في
أي سنة وإنما نقله لي ثقة أرجع إلى نقله .
ذكر حدوث الزلزلة
وفي يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة عند
طلوع الشمس ، حدثت زلزلة عظيمة بالقاهرة ومصر وأعمال الديار المصرية كلها ،
ودمشق والشام أجمع والسواحل والجبال الشامية ، وكان معظمها بالديار المصرية ،
فهدمت منائر كثيرة ، منها : منائر الجامع الحاكمي وشعثته ، وهدمت بعض جدرانه ،
وتشققت مئذنة المدرسة المنصورية على عظمها ، وإتقان بنائها ، حتى دعت الضرورة
إلى هدمها وإعادتها ، وهدمت منارة الجامع الظافري بالقاهرة ومنارة الجامع الصالحي
وغير ذلك ، وشعثت جدر جامع عمرو بن العاص بمصر ، وانهدم بسببها كثير من
العمائر ، وأقامت مقدار مضي خمس درج ، وكانت مزعجة ، وأثرت بالإسكندرية أثرا
عظيما هدمت أكثر المنارات وبعض الأسواق وغرق جماعة كثيرة عند مده وعوده
وعدم قماش التجار وجزر البحر الملح حال الزلزلة ، وانطرد عن مكانه . ثم مد حتى
دخل الصناعة ، ووصل إلى الأسوار الذي كان عند القصارين بجملته ، وأثرت هذه
الزلزلة بصفد أثرا عظيما ، وسقط جانب من قلعتها ، وانطرد البحر بعكا حتى انكشف
ما بين عكا وبرج الذبان الذي بالبحر ومسافته بعيدة ، وظهر أنه كان بساحلها أشياء مما
ألقاه أهل عكا في البحر لما حاصرها المسلمون ، فتبادر من كان هناك بالنزول لأخذ
ما ظهر لهم ، فجاء الماء أمثال الجبال فغرقوا ، ووصل في مده إلى قرب تل الفضول ،
وخربت دمنهور الوحش - وهذه مدينة أعمال البحيرة - خرابا شنيعا ؛ وأبيارا ، وغير
ذلك من البلاد ، ولعظم هذه الزلزلة بالديار المصرية أرخ كثير من العوام بها فهم
يذكرونها إلى وقتنا هذا .
ولما أثرت هذه الزلزلة بالجوامع ما أثرت ، اهتم الأمراء بالديار المصرية بها ،
فعمر الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة ما تشعث بجامع عمرو بن العاص بمصر ،
وعمر ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار ، جامع الحاكم بالقاهرة ، وجدد مآذنه
وسقوفه ، وبيضه وبلطه ، وأصلحه إصلاحا جيدا حتى عاد أحسن مما كان ، ووقف
عليه أوقافا متوفرة ، ورتب فيه من الدروس ووجوه البر والخير ما نذكره إن شاء الله
تعالى في سنة ثلاث وسبعمائة .

الصفحة 39