كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 33)

"""""" صفحة رقم 4 """"""
وخرج منها في يوم السبت السابع عشر ، وساق على الدرب الشامي مراحل ، ثم
عطف إلى أيلة ، ومنها إلى مصر ، فكانت مدة مسيره من منى إلى مصر واحدا
وعشرين يوما ، منها مقامه بالمدينة النبوية - شرفها الله تعالى .
ومع هذا السوق الشديد ، والسير العنيف ، كان من خبره عند وصوله إلى منزله أنه
طلب المياومات التي أنفقت في غيبته ، مما يتعلق بالجيوش ، فتصفحها ، وتأملها ،
وشطب منها على حسابه ما يحتاج إلى شطبه ، ثم ركب في الثلث الأخير من الليلة
المذكورة إلى قلعة الجبل المحروسة ، وجلس على بابها إلى أن فتحت بعد طلوع
الفجر ، ودخلها ، وانتهى إلى الأبواب السلطانية ، فدخل بعض الجمدارية إلى السلطان
وأخبره بوصوله ، فأنكر السلطان ذلك ؛ لخروجه عن العادة . فأعيد عليه القول أيضا
بوصوله ، ثم قيل له : إنه قد وصل إلى الباب الشريف ، فأذن له ، وعجب من سرعة
وصوله ، وجلس بين يدي السلطان ، وباشر وظيفته على عادته لوقته ، ثم خلع عليه في
اليوم الثاني من مقدمه . وتأخر وصول نائب السلطنة إلى يوم الأربعاء الثاني عشر من
شهر المحرم ، وهذا السوق الذي ساقه القاضي " فخر الدين " ما ساقه حاج قبله .
وأما غير الحاج ، فبلغني من الثقات أن الشيخ شرف الدين بن القسطلاني - رحمه
الله تعالى - لما أرسله الشريف الأمير نجم الدين أبو نمي أمير مكة - شرفها الله تعالى -
منها إلى السلطان الأشرف صلاح الدين خليل بن السلطان الملك المنصور قلاوون ،
وصل إلى قلعة الجبل المحروسة في اليوم الثالث عشر من يوم مسيره من مكة ،
واجتمع بالسلطان ، وقرأ كتابه ، وكتب جوابه في يومه . وسأله السلطان عن راحلته :
هل يعود عليها إلى مكة ؟ فقال : إنها خلأت ، فأمره السلطان أن يختار لنفسه راحلة
من الهجن السلطانية ، فاختار منها هجينا ، وترك راحلته ، وركب وعاد في بقية يومه
إلى مكة شرفها الله تعالى بعد مضي اثني عشر يوما ، فكانت مدة غيبته عن مكة منذ
ركب منها إلى أن عاد إليها ثلاثة وعشرين يوما كوامل ، ويوم خروجه منها ، ويوم
دخوله إليها ، وهذا ما لم يسمع بمثله ، ولا استطاعه أحد قبله ، والله أعلم .

الصفحة 4