كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 33)

"""""" صفحة رقم 40 """"""
وأما حاله في نفسه وأمواله ومتاجره ، فإنه اتسعت أمواله ونمت ، وكثرت
أملاكه ، وتضاعفت متاجره ، إلى أن منع التجار أن يتجروا في صنف من الأصناف إلا
أن يبتاعوه من حواصله بما يختاره من الثمن ، واحتكر الأصناف قليلها وكثيرها حتى
حبال القنب للوراقات وقصب الغاب ، وقش الحصر ، وما بين ذلك إلى المسك
والعنبر والعود ، وماء الورد ، وسائر الأصناف ، لا يستثنى منها شيئا ؛ وكان في كل مدة
ينادي بجمع التجار إلى داره وإصطبله لحضور حلقة البيع ، فتغلق الأسواق ، ويحضر
الناس على اختلاف طبقاتهم ، فيخرج الأصناف من الأقمشة وغيرها ، فيبيعها عليهم بما
يختاره هو أو أتباعه ، لا يقدر أحد منهم على الامتناع .
فلما كثرت الشناعة في ذلك صار يجمع الناس ويخرج إليهم من القماش الكمخا
والصوف والنصافي وغير ذلك ، فينادي منه على خمسة قطع أو عشرة من أجوده ،
ويقول للتجار : اشتروا بالقيمة ، فينتهي إلى قيمتها ثم ترفع إلى حاصله ، ويخرج من
جنسها ما يساوي أقل من نصف قيمتها ، فيعطاه الناس بما انتهت إليه قيمة الجيد منه ،
ويفرق عليهم ، فكان الذي يأخذه الناس لا يقوم لهم بنصف الثمن الذي يعطونه ، ومنه
ما لا يحفظ الثلث - وحكى لي بعض من أثق به من التجار العدول كثيرا من ذلك -
ثم يستخرج الثمن منهم بأشد طلب وأعنفه ، فتضرر الناس لذلك ، وانكسر جماعة
منهم ، وغلقوا دكاكينهم ، ومنهم من تسحب .
ثم خرج عن هذا الحد إلى تعطيل الأحكام الشرعية ، والعمل بغير حكم
الله تعالى وسنة رسوله [ ] ، فكان يخرج مالا في بعض الأوقات إذا برض ، ويرسم
أن يصالح أرباب الديون على ما لهم في ذمة من اعتقلوه ، ويفرج عنهم ، فيطلب
المعتقل ومن اعتقله ، ويسأل رب الدين عن دينه ، ويلزم بإحضار وثيقته ، فإن اعتذر
عن إحضارها رسم عليه حتى يحضرها ، فإذا أحضرها أخذت منه ، وأمر أن يصرف له
عشر مبلغها ، أو أقل منه ، أو أكثر بيسير ، فإن رضي بذلك وإلا قطعت وثيقته ، وأفرج
عن المعتقل ، ويرسم في بعض الأوقات على بعض أرباب الديون حتى يشهدوا عليهم
ببراءة غرمائهم فإذا تكامل ذلك أمر كريم الدين أن تغلق أبواب السجون الحكمية ،
ويمنع نواب الحكام من سماع الدعاوى في الديون الشرعية ، فتعطلت الأحكام
الشرعية ، وتضرر الناس ، وكان هذا الفعل من أشد ما فعله ، ولا يتجاسر أحد أن يذكر
ذلك له ، ولا يعيبه عليه ، حتى صار المنكر لذلك ينكره بقلبه ، وهو أضعف الإيمان .
وكان كثير من المرائين يحسنون له فعله ، ويشكرونه عليه ، ويدعون له ، فحصل
للناس التضرر التام ، حتى كادت المعاملات أن تنقطع من بين الناس .

الصفحة 40