كتاب خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم (اسم الجزء: 2)

وقد قال الحافظ ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) : كان بها- أى يثرب- من أحياء اليهود بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وكان نزولهم بالحجاز قبل الأوس والخزرج، وقد نزلوا به أيام بختنصر حين دوخ بلاد المقدس فيما ذكره الطبرى.
ثم لما كان سيل العرم، وتفرقت اليمن شذر مذر نزل الأوس والخزرج بالمدينة عند اليهود، فحالفوهم، وصاروا يتشبهون بهم لما يرون لهم عليهم من فضل العلم بالمأثور عن الأنبياء.
وبعد الهجرة قد صار اليهود حانقين على المؤمنين الذين آمنوا، وعلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لأنه مبعوث من بين أولاد إسماعيل، لا أولاد إسحاق، مع أنهم كانوا يستفتحون على الذين أشركوا به، ويرجون النصرة في بعثه، فلما جاء ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الظالمين.
ويقول ابن القيم إنه بعد الهجرة صارت المدينة المنورة بها أنواع من النفوس، فكان فيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار. وكان فيها اليهود من بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة. وفيها المشركون، وكان من خارجها من يناصبونه العداء. وقد قال رضى الله تبارك وتعالى عنه في ذلك:
«لما قدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة- صار الكفار معه ثلاثة أقسام، قسم صالحهم وواعدهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه، ونصبوا له العداوة. وقسم تركوه، فلم يصالحوه، ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يئول إليه أمره، وأمر أعوانه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره، وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه، وانتصارهم، ومنهم من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين:
وهؤلاء هم المنافقون، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه تبارك وتعالى» .
كان قدوم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة في هذه الطوائف، ولكن لم تظهر هذه الأقسام في وقت واحد، فالنفاق فيما أحسب وكما تدل الوقائع التاريخية لم يظهر إلا بعد النصر في غزوة بدر الكبرى، وكما سنبين، ولما شرق بنو قينقاع بهذا النصر، وأبدوا العداوة، واعتزموا الشر، فقوتلوا حتى أخلوا، عندئذ ظهر النفاق، وإعلان الإسلام من بعض أعداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومهما يكن من أمر تاريخ ظهور بعض الطوائف، فإنه من المؤكد أنه كان أمام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مشركو قريش الذين ناصبوه العداء، وأخرجوه من داره، وإن كان الإخراج أمرا مقدورا، وأن الهجرة كانت أمرا لا بد منه كما أشرنا، وكان أمامه اليهود، وهم يساكنون أهل يثرب ولهم المقام معهم، يدنيهم المكان والجوار، ويبعدهم الاعتقاد، وأمامه الذين اعتزلوا المؤمنين، فلم يقاتلوه، ولم يمالئوا عليه أعداءه.

الصفحة 495