كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية (اسم الجزء: 4)

ففي ذلك بيان قول الفقهاء: (الباعث على الحكم بكذا هو كذا). أو أنهم لا يريدون بَعْث الشارع، بل بَعْث المكلَّف على الامتثال، مثل حفظ النفوس باعث على تَعاطي فِعل القصاص الذي هو مِن فِعل المكلَّف.
أما حُكم الشرع فلا علة ولا باعث عليه. فإذا انقاد المكلَّف لامتثال أمر الله تعالى في أخذ القصاص منه ولكونه وسيلة لحفظ النفوس، كان له أجران: أَجْر على الانقياد، وأجر على قصد حفظ النفوس. وكلاهما أمر الله به، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: ١٧٨]، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩].
ومن أجل كون العلة لا بُدَّ من اشتمالها على حِكمة تدعو إلى الامتثال كان مانعها وصفًا وجوديًّا يُخِلُّ بحكمتها، ويسمى هذا "مانع السبب".
فإنْ لم يُخِل بحكمتها بل بالحكم فقط والحكمة باقية، يُسمى "مانع الحكم". وقد سبق بيان ذلك في تقسيم خطاب الوضع أول الكتاب.
فمثال المقصود هنا وهو "مانع السبب": الدَّين إذا قلنا بأنه مانع لوجوب الزكاة؛ لأن حِكمة السبب -وهو ملْك النصاب- استغناء مالِكه به، فإذا كان محتاجًا إليه لوفاء الدَّين، فلا استغناء؛ فاختلَّت حِكمة السبب بهذا الوصف المانع.
وقولي: (وَنَفْيُ الِاطِّلاع) إلى آخِره -إشارة إلى أن الوصف وإنِ اشتُرط فيه اشتماله على حكمة لكن يجوز التعليل بما لا يُطلَع على حكمته؛ لأنه لا يخلو عنها في نفس الأمر. فإنَّ التعبُّدي ليس المراد به ما لا عِلة له، بل ما لا يُطَّلَع على عِلته، ولكن ما لا يُعْقَل فيه مناسبة يسمى "أَمَارة".
نعم، إذا قُطِع بعدم وجود الحكمة في بعض الصوَر، جاز أن يُعَلَّل بالمظنة، خلافًا للجدليين. وممن صرح بالجواز: الغزالي وابن يحيى في "الأصول"، كاستبراء الصغيرة، فإنَّ حكمة الاستبراء تيَقُّن براءة الرحم، وهي مفقودة في الصغيرة، والتيقن محقَّق بدون

الصفحة 1904