وقد فرَّع أصحابنا على البحث الذي ذكرناه في المنادى فيما لو قال لها: (يا طالق إنْ شاء الله) أنه لا يصح عَوْدُ الاستثناء إلى المنادى؛ لأنه ليس بإنشاء، فقالوا: لو قال لها: (يا طالق، أنت طالق ثلاثًا إنْ شاء الله) إنَّ الاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة؛ لكونه إنشاء يَقبل الاستثناء، فلا يقع الثلاث، ويقع عليه بقوله: (يا طالق) طلقة. فلو أَخَّر النداء فقال: (أنت طالق ثلاثًا إنْ شاء الله يا طالق)، لا يقع عليه شيء؛ لأن قوله: (يا طالق) مُرتَّبٌ على قوله أولًا: (أنت طالق ثلاثًا)، وذاك لم يقع به شيء، لتعقيبه بالاستثناء بالمشيئة.
لكن كوْن المنادَى لا يكون إنشاء إنما هو مِن جهة إنشاء الطلاق وأما مِن حيث إنه إنشاء لدعائه وطلبه فلا يمتنع.
الثاني:
مِن الإنشاء صِيَغُ العقود والفسوخ كما تَقدم، وهي خبر في الأصل بلا شك، ولكن لَمَّا استُعملت في الشرع في معنى الإنشاء، اختُلف فيها: هل هي باقية على أصلها من الخبرية؟ أو نُقلت؟
الأكثرون على الثاني، والحنفية على الأول على معنى الإخبار عن ثبوت الأحكام. فمعنى قولك: "بِعتُ" الإخبار عمَّا في قلبك، فإنَّ أصل البيع هو التراضي، فصار "بِعتُ" لفظة دالة على الرضَا بما في ضميرك، فيُقدَّر وجودها قبيل اللفظ؛ للضرورة، وغاية ذلك أن يكون مجازًا، وهو أَوْلى مِن النقل.
ودليل الأكثرين أنه لو كان خبرًا لَكان إما عن ماضٍ أو حالٍ أو مستقبلٍ، والأوَّلان باطلان؛ لِئلَّا يَلْزَم أنْ لا يَقْبَل الطلاق ونحوُه التعليق، لأنه يقتضي توقُّف شيء لم يوجد على ما لم يوجد، والماضي والحال قد وُجِدَا، لكن قبوله التعليق إجماع.
والمستقبل يَلزم منه أن لا يقع به شيء؛ لأنه بمنزلة "سأُطَلِّق" والفَرْض خِلافُه. إلى غير