الواسطة بين الصدق والكذب.
وأجيب: بأنَّ المعنى: افْترى كذبًا أم لم يفتر فيكون مجنونًا؛ لأن المجنون لا افتراء له؛ لعدم قَصْده.
واستدلوا أيضًا بنحو قول عائشة عن ابن عمر في حديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" (¬١): ما كذب، ولكنه وَهِمَ.
وأجيب: بأنَّ المراد: ما كذب عمدًا، بل وَهِمَ.
وإلى التعريض بمخالفة هذين المذهبين أشرتُ بقولي في النظم: (لَا الِاعْتِقَادُ مُفْرَدًا) إلى آخِره، أي: ليس المدار على المطابقة لاعتقاد المتكلم وعدمه كما هو القول الأول، ولا له مع الخارج حتى تثبت الواسطة كما هو القول الثاني.
وفي المسألة مذهب رابع قال به أبو القاسم الراغب في كتاب "الذريعة": (إن الصدق التام هو المطابقة للخارج والاعتقاد معًا، فإن انخرم شرط مِن ذلك لم يكن صدقًا تامًّا، بل إما أن لا يوصَف بصدق ولا كذب كقول المبرسم الذي لا قصد له: "زيد في الدار"، فلا يُقال له: إنه صدق، ولا: كذب، وإما أن يقال له: صِدق، و: كذب؛ باعتبارين، وذلك إذا كان مطابقًا للخارج غير مطابق للاعتقاد أو عكسه، كقول المنافقين: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: ١] فيصح أن يُقال لهذا: "صِدق"؛ اعتبارًا بالمطابقة لِما في الخارج، و: "كذب"؛ لمخالفة ضمير القائل؛ ولهذا أَكذبهم الله تعالى.
وكذلك إذا قال مَن لم يَعلم أن زيدًا في الدار: "إنه في الدار" والفرض أنه في الدار، يصح أن يُقال: صدق، وأن يُقال: كذب، بنظرين مختلفين) (¬٢). انتهى
---------------
(¬١) صحيح البخارى (رقم: ١٢٢٦)، صحيح مسلم (رقم: ٩٢٧).
(¬٢) الذريعة إلى مكارم الشريعة (ص ١٩٣).