كتاب صيد الخاطر

199- ولقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، من إظهار التخشع الزائد في الحد، والتنوق1 في تخشين الملبس، وأشياء صار العوام يستحسنونها، وصارت لأقوام كالمعاش، يجتنون من أرباحها تقبيل اليد، وتوفير التوقير، وحراسة الناموس، وأكثرهم في خلوته على غير حالته في جلوته.
200- وقد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قَهْقَهَةً، وإذا خلا بالليل، فكأنه قتل أهل القرية. فنسأل الله تعالى علمًا نافعًا، فهو الأصل، فمتى حصل، أوجب معرفة المعبود عز وجل، وحرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه وأحبه، وسلك بصاحبه طريق الإخلاص.
201- وأصل الأصول العلم، وأنفع العلوم النظر في سير الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] .
__________
1 التنوق: التأنق والمبالغة في الصنعة.
37- فصل: جهاد النفس أعظم الجهاد.
202- تأملت جهاد النفس، فرأيته أعظم الجهاد، ورأيت خلقًا من العلماء والزهاد لا يفهمون معناه؛ لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق، وذلك غلط من وجهين:
أحدهما: أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها، مثل أن يمنعها مباحًا، فيشتهر بمنعه إياها ذلك: فترضى النفس بالمنع؛ لأنها قد استبدلت به المدح.
وأخفى من ذلك أن يرى -بمنعه إياها ما منع- أنه قد فضل سواه ممن لم يمنعها ذلك. وهذه دقائق1 تحتاج إلى منقاش2 فهم يخلصها.
والوجه الثاني: أننا قد كلفنا حفظها، ومن أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء
__________
1 في الأصل: دفائن. وهو تصحيف.
2 المنقاش: الملقاط الذي تستخرج به الأشياء الدقيقة كالشوكة والشعرة ونحو ذلك. ومن المجاز: استخرجت هذا بالمنقاش: أي تعبت في استخراجه ومعرفته.

الصفحة 80