كتاب معالم الدين من أحاديث الصادق الأمين

وعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْأَسَدِيِّ - رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟». قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ، وَقَالَ: «اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ -ثَلَاثًا- الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» (¬1). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَحَسَّنَهُ النَّوَوَيُّ.
¬__________
(¬1) قال الإمام ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (2/ 97): «حديث النواس بن سمعان فسَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه البر بحسن الخلق، وفسَّره في حديث وابصة بما اطمأن إليه القلب والنفس، وإنما اختلف تفسيره للبر؛ لأن البر يُطلَق باعتبار معينين: أحدهما: باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم. والثاني: أن يراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة.
وقد يكون جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث النواس شاملًا لهذه الخصال كلها؛ لأن حسن الخلق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة، والتأدب بآداب الله التي أدب بها عباده في كتابه، كما قال تعالى لرسوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقالت عائشة: «كان خلقه - صلى الله عليه وسلم - القرآن»، يعني: أنه يتأدب بآدابه، فيفعل أوامره، ويتجنب نواهيه.
وأما في حديث وابصة، فقال: «البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس». وفي رواية: «ما انشرح إليه الصدر». وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق، والسكون إليه وقبوله، وركز في الطباع محبة ذلك، والنفور عن ضده. وقد يدخل هذا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه». ولهذا أخبر الله تعالى أن قلوب المؤمنين تطمئن بذكره، فالقلب الذي دخله نور الإيمان، وانشرح به وانفسح، يسكن للحق، ويطمئن به ويقبله، وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله.
فدل حديث وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه، فما إليه سكن القلب، وانشرح إليه الصدر، فهو البر والحلال، وما كان خلاف ذلك، فهو الإثم والحرام.
وقوله في حديث النواس: «الإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس» إشارة إلى أن الإثم ما أثَّر في الصدر حرجًا، وضيقًا، وقلقًا، واضطرابًا، فلم ينشرح له الصدر، ومع هذا فهو عند الناس مستنكر، بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنكره الناس على فاعله وغير فاعله. ومن هذا المعنى قول ابن مسعود: «ما رآه المؤمنون حسنا، فهو عند الله حسن، وما رآه المومنون قبيحا، فهو عند الله قبيح».
وقوله في حديث وابصة: «وإن أفتاك المفتون» يعني: أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم، وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم، فهذه مرتبة ثانية، وهو أن يكون الشيء مستنكرًا عند فاعله دون غيره، وقد جعله أيضًا إثمًا، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شُرح صدره بالإيمان، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي، فالواجب على المستفتي الرجوع إليه، وإن لم ينشرح له صدره، وهذا كالرخصة الشرعية، مثل: الفطر في السفر والمرض، وقصر الصلاة في السفر، ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال، فهذا لا عبرة به» اهـ باختصار.

الصفحة 48