كتاب تفسير العثيمين: الزخرف

أنَّه مُهيمِنٌ عَلَى جَمِيعِ الكُتُبِ حَاكِمٌ عَلَيهَا.
وقولُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَينَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} يَحتَمِل أن مُرادَ {وَإِنَّهُ} أَي: ذِكْرُه كما قَال اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: ١٩٦]، ومَعلُوم أن القُرآنَ ليسَ فِي زُبرِ الأَوَّلينَ، ولكِنْ فِي زُبُرِ الأَوَّلينَ ذِكرُه، ولكِنْ إِذَا تَأمَّلنا قُلْنا: الأصْلُ أن الضَّمِيرَ يَرجِعُ إِلَى المُضمَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيهِ، أَي: إِلَى نَفْسِ المُضمَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيهِ، وحينَئِذٍ يَكُونُ {وَإِنَّهُ} -أَيِ: القُرآن- كُلُّه فِي اللَّوحِ المَحفُوظِ.
فإِنْ قَال قَائلٌ: هَذَا القَولُ يَرِدْ عَلَيهِ أن فِي القُرَآنِ الكرِيمِ كلِماتٍ تَحدَّث اللهُ بِهَا عَنْ شَيءٍ مَضَى، مِثْلَ قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: ١]، هَذَا الخبرُ بعْدَ المُجادلَة، وقولُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: ١٢١] إشَارةٌ إِلَى غزْوة أُحُدٍ {غَدَوْتَ} خرَجْتَ فِي الغدَاةِ، هَذَا الخَبرُ بعْدَ أَنْ غَدَا؛ لأنَّ غَدَا فِعْلٌ مَاضٍ، فهُنَا يُشكِلُ يُقَالُ: كيفَ كَانَ فِي اللَّوحِ المحفُوظِ يَتحَدَّث اللهُ عَنْ شَيءٍ حصَلَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَة؟
فيُقَال: لَا إشكَال؛ والجَوابُ: أن اللهَ كتَبَ هَذَا فِي اللَّوحِ المحفُوظِ؛ لعِلْمِه أنَّه سيقَعُ، ثُمَّ أَنزَلَهُ بعْدَ وُقُوعِهِ، كَمَا أَنَّ الحوادِثَ الكَونيَّةَ مَكتُوبَة فِي اللَّوحِ المحفُوظِ لعِلْمِهِ تعَالى أنَّها ستَقَعُ، ثُمَّ تَكُونُ حِينَ يُرِيدُ اللهُ أَنْ تَكُونَ.
وكنْتُ قَبْلَ ذَلِكَ أُرجِّحُ، بَلْ أَقُولُ: يَتعيَّن أن الَّذِي فِي اللَّوحِ المَحفُوظِ لَيسَ هُوَ القُرآنَ؛ لكِنَّ الَّذِي فِي اللَّوحِ ذِكْرُ القُرآنِ؛ أَي أنَّه سيَنْزِلُ قُرآنًا عَلَى هَذهِ الأُمَّةِ، واستَدَلُّوا عَلَى هَذَا بقَولِهِ عَزَّ وجَلَّ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: ١٩٦]، والَّذِي فِي زُبُرِ الأَوَّلينَ هُوَ ذِكْرُ القُرآنِ بلَا شَكٍّ، مُستَنِدًا إِلَى مِثْلِ الآيَاتِ الَّتِي ذَكرْتُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: ١] وقولُهُ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ

الصفحة 44