كتاب تفسير العثيمين: الروم

فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: كيْفَ تكون الأشْيَاءُ عَلامَةً عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ وهُوَ أبْيَنُ وأظْهَرُ؛ لأَنَّ معرِفَتَهُ مرْكُوزَةٌ في الفِطَر والعُقولِ؟
فالجوابُ: أوَّلًا: أنَّ بعْضَ الفِطَرِ قَدْ يَعْتَريها مَا يصْرِفُها عَن الصِّراطِ المُسْتَقِيم فتَحْتَاجُ إِلَى دَعْمٍ لِبَيانِ الآيات.
ثانيًا: أنَّ هَذِهِ الآيات كُلُّ آيَةٍ تدُلّ عَلَى نوعٍ خَاصٍّ مِن صِفَاتِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى بِخِلافِ العَقْلِ والفِطْرَةِ، فإِنَّهُ يهْتَدِي إِلَى وُجودِ الخالِق عَز وجَلَّ، مِنْ حيْثُ الجمْلَةُ أمَّا التَّفْصيلُ فَلا يُمْكِنُ إِلا بِذِكْرِ هَذِهِ الأجْنَاس والأنوَاعِ؛ وَهذا لَا يُمْكِنُ الوُصولُ إِلَى الإِحاطَةِ بِذَاتِ الله عَزَّ وَجَلَّ، نُحِيطُ بِالآيات الدّالَّةِ عَلَى صِفَاتِه، أمَّا أنْ تُحِيطَ بِذَاتِ الله فَهذَا أمْر لَا يُمْكِنُ؛ وَهذا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قَال: "تَفَكَّرُوا في آياتِ الله، وَلَا تَفَكَّرُوا في ذَاتِ الله" (¬١).
قوْله تَعالَى: {أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ}: {أَنْ} مَصْدَرِّية لأَنَّ المخَفَّفَةَ هِي التي تَكُونُ بَعْدَ عِلْمٍ أوْ ظَنٍّ، مثْلُ قوْلِه تَعالَى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: ٢٠] , ومثْلُ قوْلِه تَعالَى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: ٨٧] , وأَمَّا هَذِهِ فليْسَتْ كَذَلِكَ، وَعَلى هَذا فتكُونُ مصْدَرِّيةً، {أَنْ خَلَقَكُم} فتكُونُ هِي ومَا بعْدَها في تأْوِيلِ مصْدَرٍ مبْتَدَأ مؤَخَّر يعْنِي خلَقَكُم والخبرُ قوْلُه تَعالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ}.
قوله رَحَمَهُ اللهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ} تَعالَى الدّالة عَلَى قدرته]: قيَّدها بالدّالَّةِ عَلَى قُدْرَته لأنَّهَا أبْرَزُ شَيْءٍ في الآيات في هَذا الخلْقِ، وَإِلَّا فَهُو دَالٌّ عَلَى الحكْمَةِ العَظِيمَةِ إِذْ لَا خلْقَ إِلَّا بعْدَ عِلْمٍ، كَما قَالَ تَعَالَى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)} [الملك: ١٤].
---------------
(¬١) أخرجه أبو الشيخ (١/ ٢٤١، رقم ٢٢) عن ابن عباس موقوفًا عليه.

الصفحة 101