كتاب تفسير العثيمين: الروم

قوْله تَعالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}: مشَى المُفَسِّر عَلَى أنَّ المُرادَ بالنّفْسِ الذّاتُ، وأنَّ (مِن) للتَّبْعِيضِ، يعْنِي أنَّ نَفْسَ هَذِهِ الزّوجَةِ مِن نَفْسِ الإنْسَانِ، جُزْءٌ منْهُ؛ وَلهذا فسَّرهُ المُفَسِّر رَحَمَهُ اللَّهُ بخَلْق حوَّاءَ مِنْ ضِلْع آدَمَ وسَائِرَ النّساءِ مِن نُطَفِ الرّجال والنّساءِ.
ويُحْتَملُ أنَّ المُرادَ بالنّفْس الجِنسُ، كَما قالَ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: ١٢٨]، يعْنِي مِن جنْسِكُم ولَيْس المُرادُ مِن أنْفُسكُم، أيْ مِن نَفْسِ الإنْسَانِ إِلّا باعْتِبارِ حوَّاءَ؛ فإِنَّها خُلِقَتْ مِن ضِلْع آدَم عَلَيهِ السَّلامُ، فالمُرادُ بالنّفْسِ الجِنْس، ويُؤَيِّدُ هَذا المَعْنى قوْلُه تَعالَى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}؛ فإِنَّ الإنسانَ يسْكُن إِلَى بَني جنْسِه دُونَ غيْرِهم، فلَو كانَتِ المرأةُ تخالِفُ الرّجلَ وليْسَت مِن جنِسِه لَكانَ في ذَلِك مشْكِلَة ولَا يُمْكِنُه أنْ يسْكُنَ إِلَيْها، ومَا حصَل بَيْنَهُما ائْتِلافٌ ومودَّةٌ لبُعْدِ الفَرْقِ بَيْنَهُما؛ لهذا جعَلَها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى مِنْ جنْسِه؛ لأجْلِ أنْ يسْكُن إِلَيْها، لكِنَّ المُفَسِّر رَحَمَهُ اللَّهُ يُريدُ أنَّ المرادَ بالنّفْس في {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الذَّات، أيْ مِن ذَواتِكُم، بِدَلِيل أنَّه فسَّرها بآدَم، خُلِقَت منْهُ حوَّاءُ، وبَقِيَّةُ النّاسِ خُلِقوا مِنَ النُّطَفِ التي مِن الإنْسَانِ الذّكر والأُنْثى، ولكِنَّ الَّذي ذكَرْناهُ أوْجَهُ؛ بدَلِيلِ قوْلِه تَعالَى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، إِذ إِنَّ هَذا التّعْلِيلَ يُناسبُ أنْ يكُونَ المُراد بالنَّفس أيْ الجِنْس، عَلَى أنَّه لا يَمْنَعُ أنْ تَكُونَ النّساءُ مخلوقَةٌ مِن ذَواتِ الرِّجالِ؛ لأَنَّ مَا ذَكَرَهُ المُفَسِّر رَحَمَهُ اللَّهُ صحِيحٌ، لكِنَّ التّعْلِيلَ يُؤَيِّدُ القَوْلَ الأوَّلَ.
قوْله تَعالَى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}: اللَّامُ للتَّعْليلِ، أي لأَجْلِ أنْ تسْكُنوا، وهِي مُعلِّلَة لقوْلِه تَعالَى: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}، والسّكُونُ معْناهُ الاستِقْرارُ، ومنْه السُّكْنى في البَلدِ اسْتِقْرارُه فِيها، فقوْلُه تَعالَى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} مِن السُّكونِ، وهُوَ عدَمُ النُّفورِ

الصفحة 108