كتاب تفسير العثيمين: الروم

مَنَ الشّيْءِ، لأَنَّ السّاكِنَ هُو المسْتَقِرُّ؛ وَلهذا نقُول لمن في البيْتِ أنَّه ساكِنٌ مِن السُّكْنى، فالمَعْنى: لتستَقِرُوا وتطْمَئِنُّوا لها وتألَفُوها كَما قَال المُفَسِّر رَحَمَهُ اللهُ.
قوْله تَعالَى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}: ضَمَّن السّكونَ معْنَى المَيْل؛ فعَدَّاه بـ (إلى)، إِذْ لم يقُلْ لتسْكُنوا منْهَا ولَا عنْدَها، ولكِنْ {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، وَلهَذا كَان الرّجُل ميَّالًا بطبْعِه إِلَى المَرْأَةِ وسَاكِنًا إِلَيْها، وَلا سيَّما إِذا وُفِّق لامْرَأةٍ تكُونُ مُلائِمَةً لَهُ، فَإِنَّ هَذا يبْدُو ظاهِرًا جِدًّا مِنَ التَّعلِيل.
قوْلهُ رَحَمَهُ اللَّهُ: [{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ} جميعًا]: هل المُراد بيْن الزّوج وزوجَتِه، أوْ بيْنَ النّاس جميعًا؟ كلامُ المُفَسِّر يقْتَضي العُمُومَ، لكِنَّ ظاهِرَ السِّياقِ يخْتَصُّ بالمَرْأَةِ وزَوْجِها، فإنَّ هَذِهِ المرأةَ الأجْنبِيَّةَ التي لا تعْرِفُها ولَا تعْرِفُك مِنْ قَبْلُ إِذا تَمَّ العَقْدُ بيْنكُما ألقَى الله تَعالَى في قُلوبِكُما المودَّةَ والرّحمةَ.
قوْله تَعالَى: {مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}: المَودَّةُ: خالصُ الحبِّ. والرّحمةُ: الرّأفَةُ والحُنُوُّ والعَطْفُ، وهَل هَذا عَلَى سَبيلِ التّوزِيعِ أوْ عَلَى سَبيلِ الجمْع، بِمَعْنى: هَلِ المودَّةُ مِنَ المَرْأَةِ للرَّجُل والرّحمةُ منْهُ لهَا، أوْ أنَّه عَلَى سَبيلِ الجمْعِ أيْ كُلّ واحِدٍ منْهُم يَوَدُّ الآخَرَ وَيرْحَمُه؟ والظّاهِرُ أنَّهُ عَلَى سبيلِ الجمْعِ، فالمودَّةُ في قلْبِ المَرْأَةِ، والرّحْمَةُ في قلْبِ الرّجُل؛ لأنَّهُ هُو الَّذي لَهُ السُّلْطانُ علَيْها، وهِي التي تَميلُ إِلَيْهِ، فتكُونُ المودَّةُ منْهَا والرّحْمَةُ منْهُ، فيَكُون الوَصْفانِ مُوزَّعَيْنِ عَلَى الزّوْجِ والزّوجَةِ.
والأقْرَبُ أنَّ الوَصْفَيْنِ لكُلٍّ مِن الزّوْجَيْنِ يعْنِي أنَّ المودَّةَ تكُونُ بَيْنَ الزّوجِ وزوْجَتِه، وَكَذلِكَ الرّحمَةُ تكُونُ بيْنَ الزّوْجِ وزوْجَتِه، هَذا هُو الأقْرَبُ وهُوَ الَّذي يُؤَيِّدُه الوَاقِعُ أيْضًا، فإِنَّ المَرْأَةَ إِذا ودَّتْ زوْجَها يكُونُ فِيها رحْمَةٌ لوْلَا أنَّ الأمَّ أرْحَمُ النِّساءِ، لقُلْنا أنَّها مثْلُ رحْمَةِ الأمِّ؛ ولِهَذا تَجِدُها تتْبَعُ زوْجَها وتدَعُ أُمَّها وأبَاها وأهْلَها

الصفحة 109