كتاب تفسير العثيمين: الروم

حتَّى ينَامَ أوْ يرُدَّ رُوحَهُ إِلَى جسَدِه حتَّى يسْتيقِظَ فهَذا ليْس إِلَيْهِ، بَلْ هُو إِلَى الله، ولِهَذا أحْيَانًا الإِنسَانُ يُريدُ النّومَ وَيكُون عَلَى الفِراشِ ويُحَاوِلُ بقَدْرِ ما يَسْتطِيعُ أنْ ينَامَ، ثمَّ لَا ينَامُ، وأحْيَانًا يغْلِبه النَّومُ ولَوْ لَمْ يتَهَيّأْ لَه.
إِذَنْ: النّومُ بإِرَادَةِ الله، وهُوَ وفَاةٌ صُغْرَى، فكَما أنَّ الوفَاةَ الكُبْرى إِنَّما تَكُونُ بأَمْرِ الله وبِإرَادَتِه فكَذَلِكَ الوَفاةُ الصُّغْرَى.
قالَ المُفَسِّر رَحَمَهُ اللَّهُ: [{وَابْتِغَاؤُكُمْ} بِالنَّهَارِ {مِنْ فَضْلِهِ} أيْ: تَصَرُّفُكُمْ فِي طَلَبِ المَعِيشَةِ بِإِرَادَتِهِ]: (ابتغاؤُكم) معْطُوفَةٌ عَلَى (منامِكم)، ومعْنَى (ابتغاؤُكم) أيْ طلبُكم {مِنْ فَضْلِهِ}، (مِن) لِبَيان الجِنْس، أيْ مِن عطَائِه ورِزْقِه، والمُفَسِّر رَحَمَهُ اللَّهُ خصَّ الابْتِغاءَ بالنَّهارِ، {مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ}، والأَحْسَنُ أنْ نجْعَلَها مُطْلَقَةً كَما أطلَقَها الله؛ لأَنَّ مِن النَّاس مَنْ يبْتَغِي مِنْ فَضْل الله بالنَّهارِ، ومِنْهُم مَن يبْتَغِي مِنْ فضْلِ الله بِاللَّيْل، فكَوْنُها تبْقَى عَلَى مَا هِي علَيْهِ بدُونِ تقْيِيدٍ هَذا هُوَ الأَوْلى؛ لأَنَّ التَّقْييدَ يُضَيِّقُ المَعْنى فيَجعلُ الابْتِغاءَ بالنَّهارِ مَع أنَّه يُوجَدُ أنَاسٌ لا يطْلُبونَ الرِّزْق إِلا فِي اللَّيْل، مثْلُ الحرَّاس وأصْحَابِ الأَمْن، ومَا أشْبَه ذَلِك.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: تقْيِيدُ المُفَسِّر رَحَمَهُ اللَّهُ النَّوْمَ باللَّيْلِ وابْتِغاءَ الفَضلِ بالنَّهارِ مع أن النَّومَ يَكُونُ بالنَّهار وابْتِغاءِ الفَضْل باللَّيْل، هلْ هَذا باعْتِبار الأَغْلَبِ؟
قُلْنَا: لَو قُيِّدَتْ لقُلْنا هَذا باعْتِبارِ الأَغْلب، يعْني لَوْ قَال: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ}، أمَّا أنْ تأْتِي عامَّةً ثمَّ نُقَيِّدُها فَلا وجْهَ لَهُ، وأيْضًا لا تُفَسَّرُ بِالآيَاتِ المقَيِّدَةِ؛ لأَنَّ الآيَاتِ المقَيِّدة لا تُنافِي هَذِه.
قوْله تَعالَى: {وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ}: الفَضْل بمَعْنى العَطاءِ، وقوْلُ المُفَسِّر رَحَمَهُ أللَّهُ: [أيْ تصَرُّفُكُمْ فِي طَلَبِ المَعِيشَةِ بِإِرَادَتِهِ]، والإِرادَةُ هُنا إرَادَةُ الله عَزَّ وجَلَّ،

الصفحة 125