كتاب تفسير العثيمين: الروم

النَّاسِ لَا سِيَّما فِي الرُّعودِ الثَّقِيلَةِ والبَرْقِ العَظِيم يخَافُونَ أكْثَر مِمَّا يطْمَعُون، وُيوجَدُ أُناسٌ لا يهْتَمُّونَ بِهَذا الأَمْر، مهما قَوِي البَرْقُ ومهْمَا قَوِي الرَّعْدُ، لا يهْتَمُّون فَهُم دَائِمًا في طَمَعٍ.
قوْله تَعالَى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أيْ شَيْئًا فَشَيْئًا، مَا ظنُّك لَوْ كَان هَذا المَطَرُ ينْزِلُ دُفعَةً واحِدةً مِن السَّماءِ فلَن يُبْقيِ مبَانِيَ، بَل لا يُبْقِي الآدَمِيّينَ ولا ينْفَعُ شيْئًا، يُتْلِفُ ولَا ينْفَعُ، ومِنْه أيْضًا - أيْ كونِه مِن آيَاتِ الله - أنَّ هَذا الماءَ ينْزِلُ مِن السَّماءِ، فلَو كانَ ينْزِلُ مِن شيْءٍ طامن لكَان يُغْرِقُ الأسْفَل قبْلَ أنْ يَصِلَ إِلَى الأَعْلَى، ولكِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ جعلَه مِن فَوْقَ؛ حتَّى يَسْقِي بِه الأعْلى والأسْفَل.
وقوْلُه تَعالَى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}: {فَيُحْيِي} أيْ الله عَزَّ وجَلَّ، {بِهِ}: البَاءُ للسَّببيَّةِ، وهِي تُفِيد - كَمَا سيَأْتي إِنْ شَاء الله تَعالَى - إثْبَاتَ العِلَل في أفْعَالِ الله، فأفْعَالُ الله وشرْعُه كلُّه مقْرُونٌ بالحكْمَةِ والتَّعْليلِ، ومنْهُ مَا سبَق في قوْلِه تَعالَى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، مِن أنَّ اللامَ للتَّعْلِيل، فتُفِيدُ ثُبوتَ الحكْمَةِ فِي أفْعَالِ الله، ومن أهْل البِدَعِ مَن يُنكرُ الحكْمَةَ، فَالجهمِيَّةُ يُنْكِرُونَ الحكْمَة، أمَّا المُعتَزِلة فعَلَى العَكْس يُوجبونها؛ ولِهَذا قالُوا: أنَّه يَجِبُ عَلَى الله فعْلُ الأصْلَحِ.
وقوْلُه تَعالَى: {فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} هَل المرادُ بـ {الْأَرْضَ} ذاتُ الأرْضِ تَحيا، أوِ المُرادُ النَّباتُ الَّذِي في الأرْضِ يَحْيا؟ المُرادُ النَّباتُ الَّذِي في الأرْضِ، وحِينَئِذٍ قدْ يعْتَرِضُ علَيْنا معتَرِضٌ ويقُولُ: إنَّكُم تقُولونَ أنَّه لَا مجَازَ فِي القُرْآنِ، وهنَا إِذا حمَلْتُم الأرْضَ عَلَى نباتِها فقَدْ قُلْتُم بالمَجازِ؟
والجوابُ عَلَى هَذا: أنَّ الكلِمَةَ فِي حدِّ ذاتِها لا يُفْهَمُ معْنَاها إِلَّا بسِيَاقِها فقوْلُه تَعالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا شكَّ أنَّ المُرادَ ذاتُ الأرْضِ، لكِنَّ

الصفحة 133