كتاب تفسير العثيمين: الروم
فكَوْن الشَّيْء عَلَى صُورَةٍ معيَّنَةٍ نَجِد أنَّ جَمِيعَ مَا خلَقَه الله فِي صِفَاتِه كُلُّه عَلَى صِفَةٍ مُوافِقَةٍ للحْكِمة، تدَبَّرِ المخْلوقاتِ تجِدْ أنَّ المخْلوقاتِ في ذَواتِها وحَركاتِها وهَيْئاتِها وصِفاتِها كُلُّها مُوافِقَة للحِكْمة، الحكْمَةُ الغائِيَّةُ هِي الغايَاتُ المحمُودَةُ فِي أفْعَالِه وأحْكامِه الشّرْعِيَّةِ كُل مَا خَلق الله تَعالَى، فإِنَّهُ لغايَةٍ محمُودَةٍ ليْسَ عبَثًا ولا سُدىً {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: ٣٨ - ٣٩]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: ٢٧]، حتَّى مَا يُقدِّرُه الله مِن الأُمورِ المُؤلمَةِ فإِنَّهُ حكْمَةٌ، فهَزِيمَةُ المُؤْمِنينَ يومَ أُحُدٍ حكْمَةٌ لَا شكَّ، {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: ١٦٦ - ١٦٧]، وقَال: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: ١٤١].
إِذَنْ: كُلُّ أفعالِه سُبحَانَهُ وَتعَالَى حكْمَةٌ، ولَها غايَةٌ محمُودَةٌ، كَذَلِكَ أيضًا أحْكَامُه الشّرْعِيَّةُ مثْلُ الأحْكَام الكوْنِيَّةِ، هِي عَلَى وضْعِها عَلَى صِفَةٍ معيَّنَةٍ موافِقَةٍ للحِكْمَةِ، ثمَّ غايَاتُها الحمِيدَةُ التي بِها صَلاحُ القُلوبِ والبِلادِ والعِبَادِ أيْضًا حِكْمَةٌ.
فصَارتِ الحكمَةُ نوْعَين: حكْمَةٌ فِي الشّيْءِ عَلَى صِفَته المعيّنةِ، وحكْمَة فِي غَايَتِه الحمِيدَةِ، ثمَّ إنَّ هَذِهِ الحكْمَةَ تَكونُ فِي الشَّرع، وتَكُونُ في القَدَر أي: فِي الكَوْن، إنَّنا إذا عَلِمْنا أنَّ الله تَعالَى حكِيم فإنَّنا نطْمَئِن غايَةَ الاطْمِئْنان لما قَضاه وقدَّرَهُ ولما شَرَعَه وحَكَم بِه، نطْمَئِنُّ أَنَّه موافِق للحِكْمَةِ، وحِينَئِذٍ لا يُمْكِنُ أنْ نوُرِد ولَا أنْ يَرِد عَلَى قُلوبِنا: لماذَا جَاء كَذا؟ ومن أَيْن شَرَع كَذا؟ إلا عَلَى سبيل الاسْتِرشَادِ، فالإنسانُ الَّذِي يسْأل عَن الحِكْمَةِ مُسترْشِدًا فَلا بَأْس، أمَّا الَّذِي يسْأل عَن الحِكْمَةِ مُعتَرِضًا فإِنَّهُ قَاصرٌ، ولَم يُقدّرِ الله حقَّ قدْرِه.
الصفحة 152
358