كتاب تفسير العثيمين: الروم

إِذَنْ: هُم إنما {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فلَا يعْلَمُون كُلَّ مَا في الدّنيا مِن ظَاهِرٍ وبَاطِنٍ.
الوَجْهُ الثَّاني: أنَّهم يعلَمونَ {ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وليْسَ كلَّ ظاهِرٍ، وفرْقٌ بينَ أنْ يعْلَمُوا كلَّ ظاهِرٍ مِن الحياةِ الدّنيا وأنْ يعْلَمُوا الظّاهِرَ مِن الحيَاةِ الدّنيا وأنْ يعْلَمُوا ظاهِرًا منهَا، فالتّعبِيرُ يكُونُ عَلَى هَذِهِ الوُجُوهِ، والأخِيرُ يعني أنَّهم لَا يَعْلَمُونَ كُلَّ ظاهِرٍ إِنما يعْلَمُون ظاهِرًا منْهَا فقَطْ، وأنَّ هناك ظَواهِرَ أخْرَى لَا يعْلَمُونَها أيضًا، فعُلم بِهَذا قُصُورُ عِلْمِ هَؤُلاءِ، فهُمْ فِيما يتعلَّقُ باللهِ جَلَّ وَعَلَا جُهَّالٌ لا يعلمونَ، وفِيما يتعلَّق بالدّنْيا إنَّما يعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحيَاةِ الدّنيا فقَطْ.
أمَّا فِيما يتعلَّقُ بالآخرةِ فيقولُ تعالَى: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}، وهذَهِ جمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أُكِّد فِيها المبتدأُ (هم) بتكرارِه، فـ (هُم) الثّانية توكِيدٌ للأُوْلى، ولَو حُذِفَت وقيلَ: (وَهُم عَن الآخرةِ غَافِلُون) كانَ الكلامُ مستقيمًا، لكنَّه كُرِّر للتَّوكِيد، يَعْني هُم بالنّسْبَة لأُمُورِ الآخرة غافِلُون مُعْرِضُون عنْها لا يُفكِّرونَ فِيها، تَجِد الواحِدَ منْهُم في أُمُور الدّنيا فتَنبَهِرُ مِن علْمِه بِها، ولكن فِي أُمورِ الآخرةِ عنْدَه غفْلَةٌ لا يُفكِّر فِيها، ولَا يُحاوِلُ أن يُعمِلَ فِكْرَهُ، ولا أنْ يَنْظُرَ في هَذا الخلْقِ العظِيم، غَافِل عنْ مَاذا يكونُ مآلُه؟ وكَيْف خُلِق؟ وإِلى أيْنَ ينتهي؟
وقالَ الله تَعالَى في آيةٍ أخْرَى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون: ٦٣]، يعْني مِنْ أَمْر الإِيمَان باللهِ وبِرَسُولِه - صلى الله عليه وسلم -، {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أعمَالٌ أخْرَى، {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: ٦٣]، يُدرِكونَها تمامًا، لكِنْ في أمْرِ الإِيمَان باللهِ واليَوْمِ الآخر قلوبُهم في غمْرَةٍ؛ وَلِهَذا يجِدُ جزاءَ هذهِ الغمرةِ إِذا قِيلَ لَهُ: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: ٢٢]، وَهَذا يكُونُ يوْمَ القيامَةِ.

الصفحة 36