كتاب تفسير العثيمين: الروم

المُهِمُّ: أنَّ هَؤُلاءِ الَّذِين غَفَلُوا عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى وعَنِ الآخرة عنْدَهم عِلْمٌ مِنَ الحياةِ الدّنيا، راجِعِ الآن الصّنائِع تجِدْ شيْئًا يُبْهِرُك لكِنْ مِنْ قَوْمٍ هُم في أمْرِ الآخرةِ أُمِّيونَ لَا يعْلَمُونَ شيْئًا؛ لأنَّهُم - والعياذُ باللهِ - عنْدَهم غفْلةٌ وَلِهَذا تتعجَّبُ: كيْفَ يَصِلُ هؤُلاءِ إِلَى الأجْواءِ ويصْنَعونَ الطّائراتِ والآلاتِ الغرِيبَةَ، ومَع ذَلِك ليْسَ عنْدَهُم عِلْمٌ بِاللهِ واليَوْمِ الآخر، فلَو سألتَ الطّفل مِن المسْلِمينَ أجابَك، ولو سألت أكبْرَ واحدٍ منْهُم مِن المختَرِعِينَ ما أجَاب، وَذَلِكَ فضْلُ الله يُؤتيهِ مَنْ يشَاءُ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هلِ الضّمِيرُ في قوْله تَعالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعودُ عَلَى الكفَّار أمْ يعُودُ عَلَى غيرِهم مِن المسْلِمينَ الغافِلِينَ؟
قُلْنَا: يَعُود عَلَى الكفَّارِ؛ لأَنَّ المقْصُودَ بِهَذا تأْكِيدُ الذّمِّ في حقِّهم، وإلّا فحَتَّى المؤمِنُون لا يَعْلَمُونَ إلا ظاهرًا مِنَ الحيَاةِ الدّنيا، بِدَليلِ قوْلِه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٨].
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: بعْضُ المسْلِمينَ غافِلُون عَنْ أكْثَرِ أُمورِ الدّينِ، ولكنَّهُم عالمونَ بأمُور دُنياهُم؟
قُلْنَا: هذَا صحِيحٌ، وَهَذا فِيه شبَهٌ مِنَ الكفَّارِ حيْثُ حقَّق أمورَ الدّنيا، وأَعْرضَ عَن أُمورِ الآخرةِ.
الحاصِلُ: أنَّ المقْصُودَ مِن هَذا تأكِيدُ الذّمِّ بِالنّسبَةِ لهُم، هَؤُلاءِ الَّذِين جهِلُوا باللهِ وصِدْقِ وعدِه لا لِقُصورٍ فِيهم أَو في أفْهامِهِمْ، لكِنْ لغَفْلَتِهم، وإلَّا فإنَّ المؤمنِين أيضًا يعْلَمُون ظَاهرًا مِن الحيَاةِ الدّنيا ولَا يعْلَمونَ كُلَّ شيْءٍ، لكنَّ المؤمنِين معَهُم عِلْمٌ باللهِ وأسمائِهِ وصِفَاتِهِ وحِينَئِذٍ لا يكُونُ هَذا نقْصًا فِيهم، إِنما مَحَطُّ النّقْصِ هُو أنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْلَمُونَ ما يتعلَّقُ بالإِيمَان باللهِ، ويَعْلَمُون ظاهِرًا مِنَ الحيَاةِ الدّنْيا.

الصفحة 37