كتاب تفسير العثيمين: الروم

ومَا أشْبَه ذَلِك فاعْلَم أنَّه مُمتنِع غايةَ الامْتِنَاعِ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: ٦٤]، أيْ ممتَنِعٌ غايَةَ الامْتِنَاعِ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: ٥٩] , مُمتنِع غايَةَ الامتِنَاعِ، وهَكذا كُلَّما جَاء مثْلُ هَذا التّعبيرِ، فالمرَادُ أنَّه ممتَنِع غايَةَ الامْتِنَاعِ.
والظّلمُ في أصْلِ اللُّغَة النّقْصُ، ومنْهُ قولُه تَعالَى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: ٣٣] وهُوَ في الشّرِع كَذَلِكَ نَقْصٌ فِيما يَجِبُ، فيَشْمَلُ الإهْمالَ في الوَاجِبِ والتّعدِّي في المحَرَّم، فالتّعدّي في المحَرَّمِ نقْصٌ؛ لأنك بَخَسْتَ نفْسَك حقَّها؛ حيْثُ لَمْ تجتَنِبِ المحَرَّمَ، وَكَذلِكَ أيضًا التّقْصِيرُ في الوَاجِبِ نقْصٌ، فمَنْ قصَّرَ في واجبٍ فقَدْ ظَلَم نفْسَهُ، ومَنْ تعدَّى في مُحرَمٍ فقَدْ ظلَم نفْسَهُ؛ لأَنهُ نَقَصَ مِمَّا يَجِبُ أنْ يُعامِلَ بِه نفْسَهُ، فيَكُونُ الظّلْمُ إِمَّا تركًا لوَاجِبٍ، وإِمَّا فِعْلًا لمُحَرَّمٍ.
وبِالنّسبَةِ للهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالى فإنَّ نَفْيَ الظّلْمِ صِفَة سلبِيَّةٌ، تتضَمَّنُ كَمالَ العدْل، فهُوَ لَا يظْلِمُهُمْ لا لأَنهُ عاجِز عنْهُم، ولا لأنهُ غَيْرُ قابِلٍ لَهُ، ولكِنَّهُ لِكَمالِ عدْلِه عَزَّ وَجَلَّ لَا يُمْكِنُ أنْ يَظْلِم.
ونَفْيُ الظّلْمِ يكُونُ لِثلاثَةِ أسْبَابٍ: إِمَّا لِكمال العدْلِ، أَو العجْزِ، أوْ عدَمِ القابِلِيَّةِ.
فَإِذا قُلْت: إِنَّ الجدارَ لَا يَظْلِمُ فهُو لِعَدم القابِلِيَّةِ لَا يَقَع منْهُ الظّلْمُ أصْلًا.
وإِذا قُلْتَ: فُلانٌ ضعِيف لَا يظْلِمُ عدُوَّه، فهَذا للْعَجْزِ، قَال الشّاعِرُ (¬١):
قَبِيلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ... وَلَا يَظْلِمُونَ النّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
---------------
(¬١) هو النّجاشي الحارثي واسمه قيس بن عمرو، انظر الحماسة الشّجرية (٤٥٢)، والشّعر والشّعراء (١/ ٢٨٨).

الصفحة 55