كتاب تفسير العثيمين: الروم

التّارِيخِ والأمَمِ؛ لأَنَّ مَن راجَعَها لا سِيَّما التّوارِيخَ الحرِيصَةَ عَلَى الضّبْطِ والموْثُوقَةِ، مَن راجَعَها يتبيَنُ لَه العجَبُ العجَابُ في خَلْقِ الله عَزَّ وَجَلَّ ومداوَلتِه الأيامَ بَيْنَ النّاسِ، وتغْييره للْأُمورِ، وتَزِيدُ الإنسان إيمانا باللهِ، لكِنْ إِنْ كانَتْ هَذِهِ الحوادِثُ مِنَ السّير النّبويَّةِ وسِيَرِ الخلَفاءِ الرّاشِدِينَ ازْدَادَ بِها مَع الإِيمَان باللهِ أنْ يصْطَبغَ بصِبْغَتِها، ويَحْتَذي حذْوَها في السّيْرِ، وإِنْ كانَتْ مِنَ الأمُورِ العامَّةِ العابِرَةِ فإِنَّهُ يَسْتدِلُّ بِها عَلَى قُدْرَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ وكَمَالِ سْلطانِهِ وتغْيِيِر الأمُورِ.
فالمُهِمُّ: أنَّ السّيْرَ في الأرْضِ - بمعْنَى مُراجَعةِ الحوادِثِ والتّوارِيخِ - يفيدُ المرْءَ، وَيعْتَبِر بِها, ولكِنَّها لا تُفِيد كُلَّ أحَدٍ، كَما قَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)} [ق: ٣٧].

الفائدة الثالثة: أنَّ عاقِبةَ الكفَّارِ وخِيمَةٌ؛ لقوْلِه تَعالَى: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.

الفائدة الرابعة: أنَّ الإنسان مهْمَا قَوِيَ فهُو ضعِيفٌ بالنّسْبَةِ لِقُوَّةِ الله؛ لقوْلِه تَعالَى: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا}، ومَعَ ذَلِك لَمْ يتَحَصَّنُوا بِهَذا مِنْ عَذابِ الله، بَلْ إِنَّ الله تَعالَى بحكْمَتِه أهْلَك أعْتَى أهْلِ الأرْضِ بأَهْوَنِ الأشْيَاءِ وألطَفِها، وهُمْ عَادٌ أُهْلِكُوا بالرّيحِ، ومَنْ كَانَ يفْتَخِرُ بالأنْهَارِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِ أهْلَكَهُ بالماءِ الَّذي كانَ يفْتَخِرُ بِه بالأمْسِ، وَهَذا مما يدُلُّ عَلَى كمَالِ سُلطانِ الله تَعالَى وعظَمَتِهِ، وأَنَّه مهْمَا قوِيَ الإنسان فهُوَ ضَعِيفٌ بالنّسْبَةِ لقُوَّةِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأظُنُّ أنَّهُ في حَوَالي عَامِ ألف وأرْبَعِمِئة حصَلتْ هزَّةٌ أرضِيَّةٌ في إِيرانَ دمَّرَتْ في لمْحِ البصِر خمسًا وعِشْرِينَ ألف نَسمَة مِنْ بَني آدَم، فضْلًا عَنِ الحيَواناتِ والمواشِي ومَا إِلَى ذَلِكَ، ودمَّرَتْ مِئَتَيْنِ وثَلاثِينَ قرْيَةً ومَدِينتيْنِ كبِيرَتَيْنِ، والهزَّة ليْسَت

الصفحة 57