كتاب تفسير العثيمين: الروم

تهُزُّ مثْلَ الأرْجُوحَةِ، إنَّما هِي كلَمْحِ البصرِ مثْلَ ما حكَاهَا إِنْسَان كَتَبَ للشِّيخِ عبْدِ العزيزِ بْنِ بَازٍ في الهزَّةِ التي أصَابَتِ اليَمَنَ، فصوَّرَها تصْوِيرًا عجِيبًا في سُرْعَتِها، وأصواتٍ صَحِبَتْهَا وحالِ النّاسِ والرّعْبِ الَّذي أصَابَهُم حتَّى أنَّها، {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: ٢].
فهَذِه القُدْرَة العظِيمَةُ لَا يُمْكِنُ لأحَدٍ أنْ ينْجُو منْهَا إِذا شاءَها الله عَزَّ وَجَلَّ أبدًا، {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: ٦٥].

الفائدة الخامسة: أنَّ التّأمّلَ في حَال الكفَّارِ للاعْتِبَارِ، يعْني أنْ يعْتَبِر بِه الإنسان أمْرًا مطلوبًا لَوْ جَاء إِنْسَانٌ وَأرَادَ أنْ يدْرُسَ تارِيخَ أمَّةٍ كافِرَةٍ ماذَا حصَل لَها ومَا الَّذي جاءَها، فإنَّنا لا نَنْهاه عنْ ذَلك ما دامَ يُريدُ أنْ ينتفِع بِهَذا، وَيعْرِفَ مَاذا كانَت عاقِبَةُ المجْرِمينَ، فإِنَّهُ مأمُور بِه، أمَّا إِذا كَانَ يُريدُ أن يتَعَجَّبَ مِنْ قُوَّتهم وصنْعَتِهم ومَا إِلَى ذَلِك فإِنَّهُ يُنْهَى عنْهُ، مِثْل مَا قُلْنا في الَّذِين يذْهَبُونَ إِلَى دِيَارِ ثَمُودَ قصْدُهُمُ التّفْرّج والنّزْهَةُ، فهَذا حرَامٌ والذِين قصْدُهُم الاعْتِبار فهَذا جَائِزٌ بالشّرْطِ الَّذي ذَكَرَهُ النّبيُّ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وهُوَ ألَّا يدْخُلوها إلا وهُم بَاكُون (¬١).

الفائدة السادسة: أنَّ إِثارَةَ الأرْضِ مِنْ أسْبَابِ القوَّةِ، أي الاشْتِغَالُ بِالزّراعَةِ مِنْ أسْبَابِ القوَّةِ بِلا شَكٍّ؛ لأنَّهَا يحْصُل بها الاكْتِفاءُ الذّاتِيُّ عَنِ الغيْرِ، فإِذا كَانَت بِلادُنا - مثَلًا - تُنْتِجُ الثّمارَ والزّروعَ استَغْنينَا بذَلِك عنْ غَيرِنا، وَرُبَّما يكُونُ لدَيْنا فائِضٌ
---------------
(¬١) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ المعَذبينَ إلا أَنْ تَكُونُوا بَاكينَ فَإِنْ لم تَكُونُوا بَاكينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصابَهُمْ"، أخرجه البَخاري: كتاب الصّلاة، باب الصّلاة في مواضع الخسف والعذاب رقم (٤٣٣)، ومسلم: كتاب الزّهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذّين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، رقم (٢٩٨٠).

الصفحة 58