كتاب تفسير العثيمين: الروم

لا ينكرُه المكذِّبونَ بالبعْثِ؛ لأنَّهم يُقرُّونَ بالابْتِدَاءِ، إنما هُمْ يُنْكِرُون الإعادَةَ، {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: ٧٨] , وعَلَى هَذا فالبعْثُ إعَادَةُ وجمْعُ مَا تفرَّقَ، وليْس ابتدَاءَ خلْقٍ جدِيدٍ.
وَإِذا قِيلَ: هَذا المتفَرِّقُ صَار رَميمًا، ثمَّ تُرابًا وتَلاشَى، أوْ أنَّ الإنسان أكلَتْه السّباعُ أوْ الحيتَانُ، أَوْ مَا أشْبَهَ ذَلِك.
قُلْنَا: مَهما كَانَ، فاللهُ تَعالَى قادِر عَلَى أنْ يجْمَعَهُ ثمَّ يُعيدَه، وَلهذا قَالَ: {ثُمَّ يُعِيدُهُ}.
قوْله تَعالَى: {ثُمَّ إِلَيْهِ} لَا إِلَى غيْرِه، {تُرْجَعُونَ} فِيها قراءَتَانِ "يُرْجَعُونَ" و {تُرْجَعُونَ} (¬١)، فعَلى قراءَةِ التاء تكونُ الجمْلَةُ للخِطَابِ، وعَلى قِراءَةِ اليَاءِ تَكونُ الجمْلَةُ للغَيْبَةِ.
ويُشْكِلُ عَلَى هَذا أنَّه قَال: "يُرْجَعُونَ" مَع أنَّ الخلْق في قوْلِه تَعالَى: {يَبْدَأُ الْخَلْقَ} مفْرَدٌ، {يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، ومقْتَضى السّياقِ أنْ يقُولَ: "ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُ"، لكنَّه قال: "يُرْجَعُونَ".
والجوابُ عَلَى ذَلِكَ: أنَّ (الخلْقَ) مصْدَر بمعْنَى اسْمِ مفْعُولٍ، فمَعْنَى يبْدَأُ الخلْق يعْنِي يبْدَأُ المخْلُوقِينَ، ولكنْ لمَّا كَان مصْدَرًا فإِنَّ المصْدَر لا يُثَنَّى ولَا يُجْمَعُ، قَال ابْنُ مَالك في الألفيَّةِ (¬٢):
ونَعتُوا بِمَصْدَرٍ كثِيرَا ... فالتزَمُوا الإفْرَادَ وَالتّذْكيرَا
---------------
(¬١) الحجة للقراء السّبعة (٥/ ٤٤٤).
(¬٢) البيت رقم (٥١٣) من ألفيته.

الصفحة 69