كتاب تفسير العثيمين: القصص

لَوْ فَعَلْت هَذَا لَطَارَ الخبرُ، كَمَا يَقُولُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ مكتومٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ، فَإِذَا ظَهَرَ لِوَاحِدٍ، فَثِقْ أنَّه سيتشعَّب، فلو أَبْدَتْهُ -ولو لأقرب النَّاسِ إِلَيْهَا- لَظَهَر أمرُ الطفل، وعُلِم به، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَبَطَ عَلَى قَلْبِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} بالصَّبْر، أي: سَكَّنَّاه، والربطُ عَلَى الشَّيْءِ معناه: شَدُّ الرِّباط عليها.
وانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ: {رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}، فهو أَبْلَغُ مِن: أَسْكَنَّا قَلْبَها، والربطُ عليه معناه: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يتحرك، فهذا أبلغُ، وَاللَّهُ تعالى رَبَطَ عَلَى قَلْبِهَا، بحيثُ إنها صَبَرت، ولم تُحَدِّث أحدًا بِمَا جَرَى.
قوله تعالى: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: المُصَدِّقين بِوَعْدِ اللَّهِ، وجواب (لَوْلَا) دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وتقديره: لَأَبْدَتْ به.
وَلِهَذَا قَالَ المُفَسِّرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنّه دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُا، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ مَا قَبْلَهَا، ولكن دَلَّ عَلَيْهِ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْبِيرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ، وَذَكَرْنَا أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: يَحْتَاجَ إِلَى جَوَابٍ. ولكنك لَوْ أَتَيْت بالجواب لكان الكلامُ رَكِيكًا، فنقول مثلًا: أَكْرِم الطالبَ إِنْ كَانَ مجتهدًا. وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ؛ لِأَنَّك لَوْ أجبت: أَكْرِم الطالب إِنْ كَانَ مجتهدًا فأَكْرِمْه. يَكُونُ الْكَلَامِ ركيكًا، وَهَذَا المَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ القيم فِي كِتَابِهِ (التبيان فِي أَقْسَامِ القُرْآن) (¬١).
وهو قوله: {رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أي: شَدَدْنَاه بالربط، وَالمُرَادُ بِهِ التسكين، وقوله: {لِتَكُونَ} اللامُ للتَّعلِيل، والمعلَّل ربطُ القلب، يعني: رَبَطَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهَا لهذه الغاية، {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لَيْسَ المُرَادُ الإِيمَان الجديد؛ لأنَّها مؤمنة بلا شك، وأدلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ أَنَّهَا امْرَأَةٌ ألقَتِ ابنَها فِي الْيَمِّ ثِقةً بوعد اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنَّ
---------------
(¬١) انظر على سبيل المثال التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (ص ٢).

الصفحة 45