كتاب تفسير العثيمين: العنكبوت

كذلك مِنَ الناسِ الآن، وخُصُوصًا مِنَ الشبابِ المتَّجهِ إلى الدِّين مَنْ يُؤذِيهِ أولئك الفَسَقَةُ ويسبُّونَه ويقولون: (أنتَ رَجْعيٌّ) وما أشْبَهَ ذلك، وهذا ابْتلاءُ مِنَ اللَّهِ وامتحانٌ ليَعْلمَ هل يَصْبرُ هذا على دِينِهِ أو ينْحَسرُ ثم يرْجِعُ خوفًا من أَذِيَّة هؤلاء؟
ومن النَّاسِ أيضًا من يُؤْذَى بتحلِّيهِ بأخلاقِ المؤمِنينَ، كإعفاءِ اللِّحيَةِ مثلًا، فيؤذَى بذلكَ إما بالقَولِ والاستهزاءِ والاسْتِخفافِ، وإما بالفعل فيُضْربُ عليها أو يُحْبس، فتَجدُه يحلِقُ لحْيَته خوفًا مِنْ هذا الأمْرِ، وهذا لا يجوزُ؛ لأن الواجِبَ أن يَصْبِرَ، نعم: إن أُكْرِهت على هَذَا وغُلَّتْ يدُك وأُتِيَ بالمُوسَى وحُلِقَتْ؛ فهذا أمر ليسَ إليكَ، لكن ما دَامَ الأمر إليكَ فإنَّهُ لا يجوزُ لك أن تَفْعلَ المعْصِيةَ خَوْفًا مِنَ الناسِ، بل يجبُ أن يَصْبرَ ويحتَسِبَ.
أما قاعِدَةُ (المشَّقَّةُ تجلِبُ التَّيسِيرَ) فلا تُطبَّقُ هنا، فهذا الرَّجُل ما أُكِرَه، غايةُ ما هنالك أنه سيُضْربُ أو يُحْبس، فليقلْ: لن أفْعلَ المعصيةَ، ثُمَّ إذا أردتم ضَربِي فاضْرِبونِي كما شِئتُم، فالضَّرب مشقَّةٌ تَزُول، فلْيَصْبر ولْيَحْتسِب على دِينهِ.
ولا يَرِدُ على هذا قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦]، يَعْني: فلا شيءَ عليهِ؛ لأنَّ بعضَ العُلماءِ يقول: إن هذا في الكُفْرِ القَولِيِّ الذي مصدُرُه اللِّسانُ، وإن كان الصحيحُ أنه حتى في الكُفر الفِعْلي، فهو شامِلٌ؛ لأنَّ الآيَةَ عامَّةٌ، حتى لو أُكْره على السُّجودِ وما أشْبَه ذلك، أما التَّخَلِّي عن الأمرِ الشرعِيِّ، فهذا لا يمكنُ أن يَتَخلى المرءُ عنه، فَفَرْقٌ بينَ الفِعل الذي يُجبَر فيه على فِعلِ المعْصِيةِ، كأن تُكْره على الكُفر، فهذا يُعْذر به، وأما أن يَتْركَ واجبًا كوجوبِ إعْفاءِ اللِّحيةِ فهذا لا يجوزُ، مثاله: لو قيلَ لكَ: اتركِ الصلاةَ، فهذا كُفر، ولا يجوزُ لك أن تَتركَهَا، صلِّ ولو أُوذِيتَ بالضَّربِ والحبْسِ، ولا مانِعَ من ذلك.

الصفحة 10