كتاب تفسير العثيمين: العنكبوت

من هذه الأُمَّةِ؛ لأن المشركينَ المتَأَخِّرِينَ يُشْرِكُون في الرَّخاءِ وفي الشِّدَّةِ، وأيضًا لا يَدْعُون اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكِنْ يَدْعُونَ أولياءَهُم، فالرافِضَةُ يدْعُون عليًّا، وسمعتُ رَجُلًا يَدْعُو عند المقامِ ويَرْفعُ صوته بقوةٍ: يا عَلي يا على، فجاء أحدُ رجالِ الحِسْبَةِ وزجَرَهُ، وقال: تشركُ عندَ الكعْبةِ، فقال أنا أقولُ: (يا على) واللَّه يقولُ في القرآنِ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: ٤]، وهذا من التَّقيَّةِ عندَهم التي هي سبيلُ المنَافقين؛ لأن هذا الرَّجلَ الظاهِرُ أنه يريدُ عَلِيًا وإلا لقال: يا رب، أو: اللهم، وما أشبه ذلك.
الفَائِدةُ الرَّابِعةُ: أن اللُّجوءَ إلى اللَّه في حالِ الشِّدَّةِ أمرٌ فِطْرِيٌّ، بدليل أن هؤلاء غَلَبَتُهم فِطْرتُهم حتى دَعَوا اللَّهَ وحْدَهُ مخْلِصينَ له الدِّينَ.
الفَائِدةُ الخامِسةُ: أن الدُّعاءَ من الدِّينِ لقولِهِ: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ولا شكَّ أن الدُّعاءَ من الدِّينِ والعبادةِ؛ لأن فيه غايَةَ الذُّلِّ والاعترافِ بكمالِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وأنت عندما تقول: يا رَبِّ، فأنتَ مُفْتَقِرٌ إلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ومعناه أن اللَّه كامِلٌ، ولهذا "بايعَ الصَّحَابةُ -رضي اللَّه عنهم- النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على ألَّا يَسْألوا الناسَ شيئًا، فكان الرَّجُلُ يسقُطُ سَوْطُه من بَعِيرِهِ فيَنْزِلُ ويأْخُذُهُ ولا يقول: نَاولنْي إِيَّاه يا فُلانُ" (¬١)، بينما في وَقْتِنَا تجدُ الإنسانَ يتَذَلَّلُ غايةَ الذُّلِّ في سؤالِ المال وهو غيرُ محتاجٍ، فهؤلاء يأتون يومَ القيامَةِ وليس في وجوههم مِزْعَةُ لحْمٍ -والعياذ باللَّه-.
---------------
(¬١) أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، رقم (١٠٤٣) عن عوف بن مالك بلفظ: كنا عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: "أَلَا تُبَايعُونَ رَسُولَ اللَّه؟ " وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول اللَّه. ثم قال: "أَلَا تُبايعُونَ رَسُولَ اللَّه؟ " فقلنا: قد بايعناك يا رسول اللَّه. ثم قال: "أَلَا تُبَايعُونَ رَسُولَ اللَّه؟ " قال: فبسَطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول اللَّه فعلام نبايعك؟ قال: "عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّه وَلَا تُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا وَالصَّلَواتِ الخمْسِ وَتُطِيعُوا -وأسر كلمة خفية- وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا". فلقد رأيتَ بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه.

الصفحة 399