كتاب تفسير العثيمين: الفرقان

كيفَ يَكُونُ فُرقانًا، فالفُرْقان يَحتاج أن يَكُونَ واضحًا موضِّحًا بَيِّنًا.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: اللَّه يقول: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: ٢٣]: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} وهذا يَقتضي أن يَكُون فيه اشتباهٌ؟
قُلْنَا: المرادُ بالمتشابِهِ هنا الموافِق بعضُه بعضًا، والمُشْبِه بعضُه لبعضٍ في الكمال والحُسْن، فهذا من المُتَشَابِه؛ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: ٢٥]، أي متوافقًا ومتشاكِلًا، هكذا القُرْآن متشابهًا، بمعنى أَنَّ بعضَه يُشْبِهُ بعضًا في الحُكْمِ ويُوافِقه ولا يُخالِفهُ، وَأَمَّا قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: ٧]، فقد بَيَّن اللَّه أَنَّ هَذِهِ المُحْكَمَات إليها المَرْجِع: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}، وإذا كنَّ أُمَّ الكِتَاب لَزِمَ أن يُرَدَّ المتشابِه إلى المُحْكَمِ، وإذا رُدَّ المتشَابِهُ إلى المحكَم صار الجميع محكَمًا، وهَذِهِ القاعدة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ هي الَّتِي عليها الراسِخونَ في العِلم، وهي الَّتِي يَستريحُ بها الإنْسَانُ منْ الِاحْتِمَالات؛ لِأَنَّهُ يأتينا دائمًا في القُرْآن وفي السنَّة نصوصٌ فيها احْتِمَالاتٌ تَحتمِل كذا وتَحتمل كذا، وعندنا نصوصٌ أُخْرَى واضحة صريحة ليس فيها إشكالٌ، فالواجبُ عَلينا أنْ نَحْمِلَ هَذَا المُشْتَبِهَ على المُحْكَم، أيْ على ما يُوافِقُه ولا يُخالِفُه؛ ليَكُونَ الجميعُ محُكَمًا.

مثال رَدِّ المتشابِهِ إلى المحكَم:
أولًا: مثال في الخبر: قول اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: ٤]، قد يَشْتَبِهُ على الإنْسَان أَنَّ اللَّه تَعَالَى معنا بذاته، ولَكِن عندنا نصوصٌ محكَمَةٌ تدل على عُلُوِّ اللَّه، وأن المَعِيَّة الذَّاتية الَّتِي يَكُون اللَّه تَعَالَى معنا في كل مكان هَذِهِ مستحيلة، ولهذا الَّذِين في قلوبهم زَيْغٌ اتبعوا هَذَا المتشابِهَ وتركوا المحكَم، وقالوا: إن اللَّه مَعَنا بذاتِهِ في كل مكانٍ.

الصفحة 13