كتاب تفسير العثيمين: الفرقان

السلف، وقالوا: إذا قَالَ قائل: إنَّ القُرْآن مخلوق واستدلَّ بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فقل له: إن اللَّه قَالَ عن رِيح عادٍ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} ومع ذلك هي ما دمرتِ السَّمَاء ولا الأرضَ ولا المساكِنَ {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: ٢٥].
والبعض الآخر مِنَ العلماءِ يقول: الآية على عُمومها، والقُرْآن غير داخلٍ إطلاقًا حتَّى نحتاج إلى إخراجه؛ لأَنَّه إذا كان خالِقًا فالخالق غير المخلوق، والقُرْآن كَلام اللَّه، وكَلام اللَّه من صِفاتِه، وصفات الخالِقِ غير مخلوقةٍ؛ لِأَنَّ الصِّفة تابعة للموصوفِ.
قوله: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} الفاء تَدُلُّ على الترتيب، و (قدَّرَه) بمعنى سَوَّاه؛ لِأَنَّ الخَلْق قد يوجد لكِن بدون تسويةٍ، فاللَّه تَعَالَى خَلَقَ كل شَيْء {فَقَدَّرَهُ} أي: سوَّاه، والدليل على أنَّ التقدير هنا بمعنى التسوِيَة قولُه تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: ٢]، وعلى هَذَا فالترتيب في قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ} حسَب الواقع، فالترتيب واقعي؛ لِأَنَّ التسوية تكون بعد الخَلْق، فأنت عندما تُوجِدُ بناءً فإنك أولًا تُوجِدُ الهيكل، ثُمَّ تُدخِل التعديلات والتسويَة، هكذا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خلق كلَّ شَيْءٍ فقدَّره؛ أي: سوَّاه تسويةً مناسبةً لِمَا خُلِقَ له.
وقال بعضُهم إن معنى {قَدَّرَهُ} أي: قضاه، فتدلّ الآية على القضاء والخَلْق. وعلى هَذَا القول الَّذِي يَجعل التقديرَ بمعنى القضاءِ يَكُون في الآية ترتيبٌ غير واقعيٍّ، والسَّبب أنَّ التقدير بمعنى القضاء سابِقٌ للخلق؛ لِأَنَّ اللَّه يَقضي أولًا ثُمَّ يخلُق ثانيًا، ولَكِن الأَصْل أن يَكُون الترتيب واقعيًّا وأن الخَلْق قبل التقدير. ويدُلُّ على ذلك أيضًا الآية الكريمة: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: ٢]، فالقُرْآن يفسِّر بعضُه بعضًا.

الصفحة 24