كتاب تفسير العثيمين: الفرقان

فِعل يَنْصِبُ مَفْعُولينِ، أحدُهما مبتدأ والثَّاني الخبرُ، ومن شروطِ المبتدأ والخبرِ أنْ يَكُونَا متطابقينِ إفرادًا وتثنيةً وجَمعًا، هنا المبتدأ جمع، أي فِي قوله: (واجعلنا) فـ (نا) جمع {لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (إمامًا) هَذَا الخبر، وهو المَفْعُول الثَّاني، وهو مفرَد، فيبقى إشكالٌ وهو عَدَمُ مطابقةِ الخبرِ للمبتدأِ، والمطابقة أنْ يقالَ: واجْعَلْنا للمتقينَ أَئِمَّةً، فما هو الجوابُ عَنْ هَذا؟
بعضُهم قَالَ: إنَّ (إمامًا) لفظٌ صالح للمفردِ وغير، مثل فُلْك وجُنب وأشياءَ كثيرة من هَذَا النوعِ، وعلى هَذَا لا إشكالَ لأنَّ (إمامًا) بمعنى أَئِمَّة، صالحة للجَمع.
ومنهم مَن قَالَ: إنَّ (نا) فِي قوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} نائبةٌ عن كلِّ وَاحِدٍ، لَيْسَ عن المجموعِ، يَعْنِي اجْعَلْ كلَّ وَاحِدٍ مِنَّا إمامًا، يَعْنِي كل وَاحِدٍ يدعو بمفردِهِ، فعلى هَذَا لا إشكالَ أَيْضًا إذا جَعَلْنَا الضميرَ فِي (اجعلنا) لَيْسَ عائدًا للمجموعِ، إِنَّمَا عائد لكلِّ فردٍ مِنَ الجميعِ، فلا إشكال فِي المسألةِ، وهذا أقربُ؛ لأنَّ كلَّ وَاحِدٍ مِنَ المؤمنينَ لا يَسأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنْ يَجْعَلَ المجموعَ أئمَّةً، هو يريد أن يجعلَ كلَّ وَاحِدٍ إمامًا.
وفي هَذَا دليلٌ عَلَى فَضيلةِ الإمامةِ فِي الدينِ، ومنها إمامةُ المساجِدِ، فإنَّ الإمامَ فِي المسجدِ إمامٌ للمتَّقين؛ لأن الَّذِينَ يأتون للصلاةِ متَّقون إنْ شاء اللَّهُ، فَهُوَ إمام لهم، فيدلّ ذلك عَلَى فضيلةِ تولِّي الإمامةِ فِي المساجِدِ، وأمرُ ذلكَ معلومٌ، يَعْنِي فضل الإمامة فِي المساجد معلوم، ولو لم يَكُنْ منها إِلَّا أنَّ الْإِنْسَانَ يَكُون قُدوةً، وأن الإمامة تُعِينه عَلَى أداءِ الصلاةِ، فالإمامُ لا تَفُوتُه الصلاةُ كلَّ يومٍ، وغيرُه تفوتُه أو يفوته بعضُها، كَذَلِك الإمامُ إذا تكلَّم يَسْمَع له أكْثَر، وكم من إنْسَانٍ ما بَرَزَ وظهرَ إِلَّا بسَبَبِ إمامتِهِ، لاسِيَّما إذا تَوَلَّى الخَطابة.

الصفحة 329