كتاب تفسير العثيمين: الفرقان

الوجه الأول: أن في القُرْآن أسرارًا وإخبارًا بالغيب لا يمكن أن يأتيَ بها بَشَرٌ. ولهذا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ}، ففي أخبار هَذَا القُرْآن ما هو مِنَ الأسرار الَّتِي لا يطَّلِع عليها مُحَمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا غيره، ولهذا عدل اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوله: قُلْ أنزله اللَّه إلى قوله: {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ}، يعني وَرَدَ في القُرْآن مِنَ الأخبار ما لم يكن معلومًا حينها، فيُخبِر بالخبر فيقع، فالرَّسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لا يمكنه أن يعلم ذلك، وإنما الَّذِي يعلمه اللَّه، وهو الَّذِي أنزله، فنأخذ من قوله: {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} البُرهانَ القاطِعَ عَلَى أَنَّ هَذَا القُرْآن ليس من كَلام الرَّسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وليس أساطيرَ الأوَّلين؛ لِأَنَّ فيه إخبارًا عن أمورٍ مستقبَلةٍ تقع كما أخبر، ولا أظنّ أنَّ بشرًا يتمكَّن من ذلك، هَذَا وجهٌ بَيِّن جدًّا.
وجهٌ آخرُ يمكِن أن يؤخَذ، وهو أَنَّهُ إذا كان هَذا القُرْآن من عند مُحَمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- وينسُبه إلى اللَّهِ، ويجاهد به وعليه أيضًا، فإن اللَّه لا يمكِن أن يُقِرَّه على هَذَا الأمر؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يعلَم السرَّ، وهذا الَّذِي فعله مُحَمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- على فرضِ أَنَّهُ ليس بصحيحٍ هل هو سرٌّ أو جهرٌ؟ هو جهرٌ، فإذا كان اللَّه يعلم السرَّ فَإِنَّهُ يعلم الجهرَ من باب أَولى، وإذا كان يعلم الجهرَ، ومُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يقول: إن هَذَا كَلام اللَّه، فإن اللَّه تَعَالَى لا يمكن أن يُهْمِلَه، ولكان اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعاجله بالعقوبة؛ لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} بعض الأقاويل ليس كلها {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: ٤٥ - ٤٦]، وهذا هو السِّرُّ في العُدُول عن قولِه: (قلْ: أنزله اللَّه) إلى قوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ تَصَرَّفَ في إطلاق هَذِهِ الآية، فالآية {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} وهو يقول هنا: [{إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا} للمؤمنين

الصفحة 46