كتاب تفسير العثيمين: الفرقان

كَنز تَستغني به عن طلب الرزق؟ بماذا نُجيبهم؟ دَفع قولهم أنَّ النَّبيَّ -صلي اللَّه عليه وسلم- خُيِّر بينَ أن تُسيَّر معه الجبال ذَهَبًا أو خُيِّر بين أن يَكُونَ ملِكًا نبيًّا أو عبدًا نبيًّا، فاختار هذا.
لَكِنْ هَذِهِ ليستْ مقنِعةً لهم، فنقول: الرِّسَالة لا تَتَوَقَّف على المال، وليس المال دليلًا للرسالة؛ لِأَنَّ هناك أُناسًا كثيرينَ أغنياء ولَيْسُوا برسلٍ. ثُمَّ نقول: إن عدم المال معه قد يَكُون أكْثَر لتأييد كونه رسولًا؛ لِأَنَّهُ لو نزل إليه مال وكان عندَه كَنزٌ واتبعه النَّاس مِنْ أجْلِهِ لصارت المسألة أَنَّهُمْ ما اتَّبعوه مِنْ أجْل رسالته، ولقيل: اتبعه النَّاس مِنْ أجْل كَنزه وغِناه. إذَن نقول: كونه لم يُنزَل عليه كَنز ليس مانعًا مِنَ الرِّسَالة؛ لِأَنَّ ثبوت الرِّسَالة لا يتوقف على الكنز، بل تَثْبُتُ بدونه، فهذا إبطال لقولهِم.
خامسًا: قولهم: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} نقول فيها مثل ما قُلنا في مسألة الكَنْز؛ أن هَذَا ليس بلازمٍ للرسالةِ، وأنه لو كان له جَنَّة يأكل منها أو (نأكل) على القراءة الثَّانية، وهي أَولى، لقيل: إنهم اتَّبعوه لأجل الأكل من هَذِهِ الجنَّة.
سادسًا: قولهم: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} بماذا نَرُدُّ عليهم؟ نرد عليهم بأن المسحور لا يُمكِن أن يأتيَ بمثل هَذَا الكَلام الَّذِي يعجِز عنه العقلاء، فيقال: فهل يمكن لإنْسَان مسحور مخبول العقل بالسِّحر أن يأتي بكَلام يعجِز عنه العقلاء ويُتَحَدَّى العقلاء أن يأتوا بمثله ولا يستطيعون؟ لا يمكن، هَذَا واضح جدًّا، ولهذا قَالَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}، فالمسحورُ لا يُمْكِن أنْ يأتيَ بمثلِ هَذَا الكَلامِ، فنحنُ لا نقولُ: إِنَّهُ يأتي بكَلامٍ يُمْكِن نَقْضُه أو لا يُمْكِن، بل لا يُمْكِن إلَّا أن يأتيَ بكَلامٍ غيرِ متوازنٍ، فكيف بكَلامٍ مُعْجِزٍ؟ !
* * *

الصفحة 52