كتاب تفسير العثيمين: الفرقان

وقوله: {فَضَلُّوا} الفاء هَذِهِ عاطِفةٌ، لَكِنَّها تفيد السَّببيَّة، أي فبسَبَب ما ضَرَبُوه لكَ منَ الأمثال ضَلُّوا. وفي هَذَا دليلٌ على أنَّ الإنْسَان إذا أوردَ الشُّبُهاتِ على نفسه أو على مَن أتى بالحقِّ فَإِنَّهُ يَكُون سَبَبًا لضلالِهِ إذا لم يَقْبَلِ الإنْسَانُ الحقَّ ويَدَع ما يَرِدُ على خاطرِه من الشُّبُهات حول ذلك الحق، فَإِنَّهُ يَكُون سَبَبًا لضلالِه، ولهذا قال: {فَضَلُّوا} الفاء عاطفة وتفيد السَّببيةَ.
وقد ذكر ابن القيِّم رَحِمَهُ اللَّهُ في (مِفتاح دار السَّعادة) أَنَّهُ تكلم مع شيخِه ابن تيميَّة في مسائل فجعل يُورِد عليه بالنقض، فقال له: "لا تَجْعَلْ قَلْبَكَ للإيرادات والشُّبُهاتِ مثلَ السفنجة فيَتَشَرَّبها فلا ينضح إلَّا بِهَا، ولَكِن اجْعَلْهُ كالزُّجاجة المُصْمَتَة، تَمُرُّ الشُّبُهَات بظاهرها ولا تَسْتَقِرّ فيها، فيراها بصفائه ويَدْفَعها بصَلابتِه" (¬١) وهذا صحيحٌ؛ لِأَنَّ الإنْسَان إذا فتح على نفسِه بابَ الشُّبُهات والتساؤلات فإنَّهُ يَضِلّ، وانظُرْ إلى إرشاد النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الرجل حينما يتساءل النَّاس: مَن خَلَقَ كذا؟ من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقولوا: من خلق اللَّه؟ فأمر النَّبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الإنْسَان إذا وصل إلى هَذَا الحدِّ أنْ يَستعيذَ باللَّه ولْيَنْتَهِ، وأَرشدَه إلى أن يقرأ {اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬٢) وفي حديثٍ آخرَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (¬٣) فهَذِهِ الأشياء الَّتِي تَرِدُ على القلب إذا استرسلَ الإنْسَان معها فسوف تكونُ سَبَبًا لضلالِهِ كما تفيده هَذِهِ الآية وآيات أخرى كثيرة، مثل قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ
---------------
(¬١) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن قيم الجوزية (١/ ١٤٥) ط. دار الكتب العلمية.
(¬٢) أخرجه أبو داود: كتاب السنة، باب في الجهمية، رقم (٤٧٢٢).
(¬٣) أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، رقم (٥١١٠).

الصفحة 54