كتاب تفسير العثيمين: الفرقان

{وَأَعْتَدْنَا} بمعنى هَيَّئْنَا {لِمَنْ كَذَّبَ} بالساعةِ منهم ومن غيرهم، ولهذا أتى بـ (مَنْ) الدالَّة على العمومِ، ولم يَقُلْ: وأَعْتَدْنَا لهم، وهذا إظهار في موضِعِ الإضمارِ، وقد سبقَ أنَّ من فوائدِ الإظهارِ في مَوْضِعِ الإضمارِ العمومُ والتصريحُ بالعِلَّة؛ عِلة الحُكم، فقوله: {لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} كأن هَذَا تعليلٌ للحُكْمِ الَّذِي هو قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}؛ لأَنَّهُمْ كذَّبوا بالساعة.
وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ} يستفاد منه أن النار مخَلوقةٌ الآن، وهو كذلك، وقد دلَّت على ذلك نصوصُ الكِتَابِ والسنَّة؛ قَالَ اللَّه تَعَالَى عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: ٤٦]، وهذا نصٌّ صريحٌ في أنها مخلوقةٌ. وفي الأحاديث الصحيحة ما يَدُلُّ على ذلك؛ مثل: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لهَا بِنَفَسَيْنِ؛ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ" (¬١).
وقوله: {سَعِيرًا} قَالَ المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [نارًا مُسَعَرَّة]، فجعل فَعيلا بمعنى مفعول، أي مسعَّرة، ويَحتمِل أنْ تكونَ بمعنى فاعلٍ؛ أي حارقة تُحْرِق مَن دخل فيها، والمعنى لا يَتنافَى؛ لِأَنَّهَا إذا كانت مُسَعَّرة يعني مشتَدَّة الحرارة، أو كانت هي بنفسها تَسْعَرُ بالنَّاس وتأكلهم، فهذا وهذا متلازمانِ.
* * *
---------------
(¬١) أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، رقم (٣٢٦٠)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة، ويناله الحر في طريقه، رقم (٦١٧).

الصفحة 61